حداثة ضدّ الحداثة.. العالم ينتفض
تشرين- إدريس هاني:
حين تجتهد وُسع النّظر بحثاً عن المشترك الإنساني، فيتراخى الآخر، ويرى أنّه غير معني بأي مشترك من هذا الضّرب، فهذا مؤشّر إلى خلل في تدبير المفهوم، عن علاقة ملتبسة بين النّظر والعمل، وهي مناورة تجد مَدْرَكَها الأمثل في جزيرة الكنز، وتحديداً في إفلاس «بن غام» بعض الظفر بقسط من الكنز وعودته إلى وضعية البؤس.
ثمة وحوش في هذا العالم بيننا، يخفون أنيابهم خلف المفاهيم الكبيرة، عقولهم تناور بالأفكار، وقلوبهم ضارية بين التمسرح العقلاني والتوحش العميق، تُصبح الازدواجية فنّاً، لكنه فنّ يتطلب تمكيناً.
ولم يعد التوحش بدعاً في عصرنا، حين تدهور الغرب السياسي وانقلب على المبادئ الكبرى للتنوير، وحاصر الحداثة في مسار لا حِوَل عنه في اتجاه التصنيع والوضعانية والتوحش الليبرالي، كبرت أنياب الليبرالية المتوحّشة، وأصبحت تهديداً لكل قيم التنوير والحداثة، يرتدّ الغرب السياسي إلى ما قبل الحداثة بوسائل الحداثة.
أمام هدير المفاهيم الكبرى التي يحتجّ بها الثّالثي، يجد الغرب في انحطاطه الامبريالي نفسه أمام خيار واحد: افتعال التجاهل وعدم الإنصات، ومُغالطة التكرار، هو اليوم فشل في أن يقدم نفسه نموذجاً، بل هو فقط كتلة قويّة بمناوراتها وما أبدعه مؤسسو أفكارها الكبرى، قوية بالموارد الطبيعية للمحليين، باحتكار الحداثة وقواها، بإدارة الاقتصاد العالمي وفيّة للميركونتيلية، بعلاقات دولية قائمة على عنف دارويني وتصنيفي، بمخيال الأناسي المستذئبة، لقد بات الغرب نفسه خطراً على الحداثة، بل هو يرسم أفقاً للاستقالة في ظلّ انبعاث القطبيات التي استوعبت قوة الحداثة، وقد تتقدّم فيها أشواطاً إذا كفّ الغرب عن التشويش أو الابتزاز باسم الحداثة.. لقد تجاوزت الأمم صدمة الحداثة وباتت تتربّص بها في موقف برومثيوسي.
ما بعد الحداثة هو في نهاية المطاف تشريح عميق لجسد الحداثة فيما آلت إليه، وتشخيص لبثورها وجراحها، والتحليل النفسي لعُصابها.. إنّ الغرب السياسي تحوّل إلى قرصان، وهو يتحمّل ضريبة انكفاء أمم كثيرة، كما أنّه بات يرسم خرائط تخلفنا، ويراقب بيانات تقدّمنا، في لعبة دومينو لا يخلو منها مجال.
يرى الغرب اليوم، باستثناء الأوفياء لقيم العدالة والتحرر، أنّ ما يحصل في غزّة هو «دفاع عن النفس» يقوده احتلال صُنع في شروط امبريالية، ضدّ أبناء الأرض المحليين، حيث يريد الغرب السياسي الذي يهيمن عليه الرأسمال ومجموعات المصالح والجهل الفلسفي بروح التّقدّم، أن يحافظ على جمود الحضارة المعاصرة، وحماية امتيازاتها بالشطط، وعسكرة الحداثة نفسها، حيث لم تعد حداثة ابتكار المفاهيم الكبرى، بل باتت حداثة ترسم المسافة بين حداثتين: حداثة السادة وحداثة العبيد.
لا مخرج لمعضلة العالم إلاّ بمشروع حضاري، تتوافق عليه السيرة العُقلائية الكونية، إنقاذ الحداثة من قراصنة جزيرة الكنز، واستعادة ممكناتها، فالبشرية كلها متضررة من هذا الانحطاط والانسداد، وسوء الفهم الكبير الذي تعززه وسائل التأثير والتّآمر على الدماغ البشري، هو أيضاً سيتفكك بقوّة الملل من التّفاهة ونظامها العالمي.. العالم اليوم في حالة انتفاض، والقلق بات وباء جماعياً.
الغرب الحر المتضرر من هيمنة أباطرة السياسة، الذين صادروا المسار الطييعي للحداثة، هم اليوم معنيون بإيجاد جبهة مقاومة عالمية ضدّ هذا الجمود في العقل وفي أنماط الإنتاج والاستهلاك.. لقد أصبح الغرب السياسي عائقاً ضدّ ممكنات الحداثة، غلب الـ «Homo economicus» على الـ«Homo Sapiens»، وبات من الضروري والمُلِحّ أن ينبعث الـ«Homo Ludens»، حيث حاجة الحضارة إلى تغيير قواعد اللّعب، اللعب المضاد، يحتاج الفريق المناهض للجمود أن يختار محترفين من خارج الغرب، فإنقاذ فكرة التقدم يجب أن يكون كونياً، والهامش الناهض هو رصيد كبير لحضارة المستقبل. اليوم كلّنا مزود بممكنات الحداثة، تلك التي نزع بها الغرب السياسي إلى حالة من التجنيس والمركزية، بينما قِوَام كونية الحداثة أن تكون مسؤولية الشمال والجنوب، الحرب الحضارية إن كان ولابدّ منها، فهي كونية، حرب الحداثة بين سادتها وعبيدها، بوسائل حديثة، حداثة ضدّ الحداثة.