مصطفى شقرة يحصد بـ«اللامرئي» إحدى مراتب جائزة دمشق للقصة القصيرة جداً
تشرين- راوية زاهر:
(اللامرئي).. مجموعة قصصية للكاتب السوري مصطفى شقرة، حازت المرتبة الثالثة في جائزة دمشق للقصة القصيرة جداً الدورة الثالثة ٢٠٢٢-٢٠٢٣م، وصدرت عن دار«أمارجي» السومرية للطباعة والنشر، العراق بإشراف الدكتور محمد ياسين صبيح.
مئة وقصتان تعدادُ النصوص التي تضمنتها المجموعة بطاقةٍ تكثيفيةٍ هائلةٍ تنوعت من خلال أحداثها القضايا الاجتماعية والوطنية والنّفسية والإنسانية.
وقد حملَت المجموعة اسم (اللامرئي)، وهو عنوان مأخوذ بشكلٍ تقليدي من عناوين أحد النّصوص.
فتحت عناوين شائقة اندرجت نصوصٌ تحمل الكثير من الحكائية مؤطرةً بأزمنةٍ وأمكنةٍ وأحداثٍ موحيةٍ وغير مصرّح بها، وقد دارت الأحداث بعمقها وكثافتها حول شخصية الكاتب ذاته، فالأنا والذاتية بدتا واضحةين من خلال الميل المطلق إلى استخدام ضمير المتكلم، وقد اتسمت جلُّ القصصِ بالدّرامية التي تهب الأحداثَ التوترَ والحركةَ والفعل.
والجدير ذكره، هو تناول الكاتب قصصه من قلب الواقع، ولاسيما الثّلاثياتِ التي تميّزَ حضورها في الكتاب، وما تركته من انطباع درامتيكي وترابط نفسي ومعنوي وعاطفي لدى المتلقي، كثلاثية نافذة صامتة (صورة، حداد، خلود)، وكذلك ثلاثية شوبنهاورية، وما حمله العنوان من تناص خاص رغم وضوح عدم ميل الكاتب للتناص، وهي مؤلفة من (وطن – رصيف – غرباء،).. ثلا ثية تبدّت بمشهدية أمٍّ مفجوعةٍ وضياع واغتراب على أرصفةٍ الأوطان.
وبالعودة إلى النص الذي حمل عنوان الكتاب (اللامرئي): فالعنوان كما هو معروف العتبة النصية الأولى لكلّ نصّ أدبي أيٍّاً كان تصنيفه، وما على القارئ إلا تخطيه بوعيٍ تام وربطه فيما بعد بنتائجَ أو خواتيم النص الإبداعي، وهذا العنوان الغارق في عتمته، ليس عنواناً لنص من نصوص المجموعة فحسب، بل هو عنوان للمجموعة بكاملها، وسنقف على النص بعد عرضه:
(اللامرئي)
«أنفثتُ زفيري، تتشكلُ أطيافاً تحاوطني، تمتصّ شهيقي، حين قاومتها، تضاعفت، حاولتُ الفرار… لحقتْ بي وقد انتعلتْ أقداماً ».
فاللامرئي عنوانٌ لعمل حكائيٍّ غزيرٍ النصوص، نسجه القاص من خيال واسعٍ مجنّح وقد انسجم مع فكرة مستوحاة من الخيال ومسقطةٍ على الواقع، محاولاً إيصال رسالة إلى عالمٍ مغايرٍ، ترزح فيه النّفسُ تحتَ هواجسِ باتت تمسك بتلابيبَ الرّوح والأنفاس.
ومع تقدّمِ السّطوةِ، باتت تتبعه، وتتجسدُ بهيئة بشرية بأقدام وأطراف.
وأهمّ ما ميّز هذا النص نبضهُ السّريعُ، وصغرُ حجمه، ولا يخلو من حكائيته المبطنة، وعالمٍ منفرد من التأويل والرمزية، فكان موحياً، وتبدّت فيه فعلية الجملة واللجوء إلى الأنسنة في لحظة الإدهاش الأخيرة ذاتها. فالنّصُّ قام بالبحث عن القارئ من خلال لغة الإيجاز واستخدام لغة البلاغة والتشويق رغم ذاتيتهِ المفرطة التي تجلّت باستخدام ضمير المتكلم كما أسلفنا، ومن ثم يعيد الكاتب استخدام تقنية الالتفات لإحداث حالة من الشدّ والجذب، فانتقل من المتكلم إلى الغائب، من أنا إلى هي.
أما مفارقة النص؛ فكانت من خلال جريانه بشكلٍ عفوي.. زفير ينفثه إنسانٌ متعبٌ مثقلٌ بهمه محاولاً التحايلَ على ما يريد إيصاله إلينا فيظهره على عكس ما يرغب في إيصاله.. أمّا الحالة فكانت في حالة الوعي في ذات الكاتب بوصفه مرهف الحس ومتمكناً من أدوات التعبير والانتقال حول الحدَثيّة التي الهدف منها ليس سرد الأحداث وتفصيل سروده، وإنما إخماد الاحتمالات المرتبةِ على الجملِ السّرديةٌ القصيرةِ من أجل التّمهيدِ للخاتمةِ وذلك من خلال تقاطعِ مخزونات الذاكرة عند القارئ، وما يرغب الكاتب في إيصاله.
وعند الوقوف على الخاتمة، فقد أحدثت صدمة، وحضرتْ البلاغة في عمقها، فتلك الأطياف المنبعثة من الداخل فرضت طوقاً أمنيّاً حول الأنفاس محدثةً صراعاً خفيّاً بدت الغلبةُ فيه لها بحكم محاولةِ الهربِ منها وعدم القدرةِ على مجابهتها، وحينها كانت الصّدمةُ بالخاتمةِ المتوهجةِ التي تحمل غاية النص وهدفه، وقد تحوّلتْ في تلك اللحظةِ الأشياءَ المعنويةَ إلى ماديةٍ تُدرَك بالحواس، وهنا فرض التشخيص وجوده لتصبحَ تلك الأطيافُ اللامرئيةِ شيئاً مرئيّاً بقدمين ينتعلان الرّيح جرياً وراء الضّحية.. كما أحدثت الخاتمةُ قفزةً من داخل النّص إلى خارجهِ الإدهاشي.
وقصصُ الكتاب كثيرةٌ، وشائقة ومتنوعةٌ، وهذا ما حملته لنا اللغةُ في جعبتها من تكثيفٍ رمزي وترابطٍ بين الجملِ ومتمماتها المعنويّة والدّلالية.. وبدا الرمز جليّاً في كثير من النصوصِ ليُحيلَنا إلى إبداعٍ يحملُ ثقافةً عاليةً لمبدعها.
(النّاي ورحلة الحرمان والشّجن، اليد الاصطناعية، والإطار الذي استجمعت فيه صوراً لموتاه من أحلام وذكريات وربما شخوص، وأضغاث الأحلام ورائحة البارود المنتشلةِ ممن ابتلعَ لغماً وشظايا ذاتَ حربٍ، وعجزَ الطّبُّ عن إزاحته، فانعكست رائحةً للبارود عند النطق).. فاللغةُ كانت مختلفة وتميلُ إلى المجاز المجنّح في عوالم إبداعيّةٍ ولغويّةٍ مميزة، بعيدة عن الحشو والسّرد والاستطراد. والثلاثياتُ المميزة كانت قد حققتْ وحدةً معنوية بشكلٍ لافتٍ، ولم تخلُ قصة من الحضور البلاغي الذي يحتسبُ للكاتب من كنايات، واستعارات، وصور من قبيل: (أرجل الوقت، تحرشت الريح، غرس الليل أنيابه) وغيرها كثير.. وقد حضر أسلوب الشّرط في أكثر من موضعٍ كوسيلةٍ مميزة للربط بالمعنى بين جمل فعل الشرط وجمل الجوابِ محدثاً اتساقاً وانسجاماً بين الجملتين.
وأمام قصتين من بين مجموع كبيرٍ تحملان عنوان«فراق» و«تشييع».. نقف بكاملِ الانبهار لما حملتْا من إضمارٍ وحكائيةٍ وحُسنِ انتقاءٍ للأوصاف لتضعكَ القصتان أمام مشاهدَ ولقطاتٍ سينمائيةٍ مكثّفة المعنى والحضور، وتحدثُا هزةً في باطن المتلقي وتتركاهُ برهةٍ أمام الدّهشةِ المتولدةِ، وهي تبكي واقعَ أمّةٍ مريراً، أوقعته الحربُ في أتون الحقد والضّياع والموت.
(فراق)
«فطمتهما الحرب، انشطرت حياتهما، نهل كل منهما من مدرسة، تخرّجا أشبالاً، لما خفقت رايةُ القتالِ مجدداً تعانق رصاصهما بلا رحمة ».
عالم من التناقض القائم على التضاد بين عناصر الصورة، فبدا للمتلقي التناقض بين طرفي الصورة من جهة الأثر الفني، التعانق بلا رحمة، فالتضاد من أهم العناصر المولدة لدينامية الصورة، لأنه يولّد الحيويةَ، ويجسّد التّعارض بين القوة البشرية والواقع والتركيز على العناصر الشّعوريةِ والنّفسيّة للتّضاد لتظهر نقائض الذات في جدليتها معبرةً عن توترها النفسي الحاد.