“قناديل” محمد الركوعي… غزّة تنتظر النهار

تشرين- لبنى شاكر:
حُكِمَ عليه بالسجن مدى الحياة. استعدتُ الجملة، في الطريق المُؤدي إلى صالة لؤي كيالي في منطقة العفيف، يومها كان معرضه “جدائل الروح” عام 2018، فرصةً لاكتشاف ما آلت إليه ذهنية الفنان الفلسطيني محمد الركوعي “عسقلان 1950″، ومن ثم، تكررت الفرصة في معرضه “قناديل”، المُفتتح مُؤخراً في المركز الثقافي في أبو رمانة، بعد سنواتٍ تزاحمت فيها الأحداث والنَقَلات، بدأت باكراً مع اعتقاله شاباً بتهمة المشاركة في عملياتٍ عسكريةٍ فدائيةٍ ضد “إسرائيل”، صدرت بموجبها أحكامٌ بالسجن المُؤبد لِمدرّس الفنون، أمضى منها 13عاماً، رسم خلالها 400 لوحة على وجوه المَخَدات، وهرّب الكثير منها إلى عائلته وأصدقائه في الضفة الغربية وغزّة، عبر الشبك الفاصل بين الزوار والمُعتقلين، إلى أن أُطلق سراحه في عملية تبادل الأسرى عام 1985م (عملية الجليل).
وعلى عادة الفلسطيني أينما حل، كان الركوعي يُطوّع ما حوله ليحيا، فَرسم وعلّم وأسس مركزاً للفنون وإحياء التراث الفلسطيني، وكان التزامه بقضيته مساحةً لإبداعٍ لم يحده شرطٌ أو عائق، واضعاً العديد من الفنانين، ممن اتخذوا مواقف واضِحة وصريحة مِن قضايا وإشكالياتٍ سِياسيّة واجتماعيّة، أو تبنوا عقائد ومبادئ مُعينة، في مأزقٍ حقيقي، لا سيما أن عدداً من الرموز والأسماء اكتسبت صفة القدسية عند الجمهور في مراحل عدة، فكان عليهم تبرير ما آل إليه مُنتجهم من جمودٍ وتكرار، أولاً، والاعتراف ثانياً بأن اشتغالاً مدروساً على الثوابت لا يجعل من الالتزام رخواً بقدر ما يُثبت صوابيته ومكانته، ولا ينتقص في السياق نفسه من وفاء صاحبه، إذا ما جعل الفردانية سِمةً تُميزه.

قُبيل الافتتاح بأيام، استُشهد ابن أخيه، في الأحداث التي تشهدها غزّة حالياً “طوفان الأقصى”، ومع ذلك أصرّ الركوعي، على إقامة المعرض، داعياً الجمهور في صفحته في فيسبوك، لإشعال الشموع تحيةً لأرواح الشهداء، والحضور كدعمٍ معنويٍّ لشعبٍ يحلم بالحرية والسلام، ولعلّ هذا كان سبباً دفعه لِعرض لوحة السنونو التي رسمها في مُعتقل عسقلان عام 1984، على قطعة قماشٍ أبيض، من وجه المَخَدة التي كان ينام عليها، بألوان الشمع وأقلام الحبر الجافة، إشارةً إلى الحلم الفلسطيني، الذي ما زلنا نرنو إليه، كما ضمّ المعرض أيضاً، مجموعة لوحاتٍ رسمها في العامين الجاري والسابق، بألوان الإكريليك على القماش، مَزجَ في إحداها بين قنديلٍ، يعتلي قبة بيت، وجسدٍ أنثويٍّ طائر، برداءٍ شرقي، وعلى حدِّ تعبيره “فلسطينيةً كانت ولم تزل”، وفي لوحةٍ أخرى، استحالت الأجساد ذات الثياب المزركشة، إلى شُهبٍ مُضيئةٍ، في سماء مُعتمة، عائداً إلى الأساطير الشرقية القديمة، عن دمشق وبغداد والقدس، وهي الصفة العامة للوحات.

فكرة القنديل، حضرت أيضاً، مع مدينةٍ مُضيئة تراكبت نوافذها وشرفاتها، فبدت مُمتدة إلى ما لا نهاية، وفي عملٍ ثانٍ كان لهذه المدينة، بوابةٌ مُقنطرة، يحتلها جسدٌ أنثويٌّ بالملامح الشرقية ذاتها، يقول بأنها “انتظارٌ على بوابة المدينة، غزّة تنتظر النهار”، لِيعود القنديل بوصفه جزءاً من تشكيلةٍ لونيةٍ باذخة، في لوحةٍ تتماهى فيها المدينة الخالدة مع الأجساد، وكأنّ الركوعي يُحاكي الأحداث على طريقته، فاللوحة ليست صامتةً بالكامل، لكنّ الحركة فيها مُحددة، بحيث تبدو القوة في التشكيل النهائي، بحضوره الأخير الثابت؛ بمعنى أن لا شيء ينفصل عن آخر، المكان والناس والضوء، وهو ما يتأكّد في لوحةٍ عنوانها “موسم الهجرة إلى الشمال”، مع إعلان الركوعي باستمرار عودته إلى فلسطين؛ فهو يضع شخوصه التي تحمل معها شرقيتها، في إطارٍ شبه وهمي، بينما تحاول غرز أقدامها في الأرض، رغم نيتها الرحيل، ربما تأخذ زوادتها للأيام القادمة.
من وحي حكايات “ألف ليلة وليلة”، يضعنا التشكيلي أمام تناقضٍ لوني غريب، لا ينتقص بالمقابل من الهدوء الحالم في اللوحة، حيث الحبيبان يلتقيان في فضاءٍ ما، لكنهما يلتقيان أخيراً، وهنا تبدأ الحكايات، عكس ما يُقال عن نهاية الحكاية بالتقائهما، وفي لوحةٍ تجتمع فيها أشجارٌ ملونة ومنمناتٌ كثيرة، يضع عنواناً لها “غنّي لِيافا”، والحق إن تشكيلةً فيها من الوحدة والفرادة معاً، كالتي رسمها الركوعي، تُشبه أغنيةً فلسطينية، لكل كلمةٍ فيها ألف معنى وصورة، أما عن لوحةٍ ضمت الأجساد الأنثوية المُتطاولة، كما يُحب إظهارها، فيرى بأنهن “ثلاثة أوتارٍ يعزفن للقلب، ثلاث جميلاتٍ يقفن على خط ناي”، هكذا هنّ الفلسطينيات.
في لقاءٍ سابقٍ معه، قال الفنان إنه يسمع انتقاداتٍ واستهجاناً لتوزيع أعماله بشكلٍ شبه مجاني، وأحياناً مجانيٍّ بالمطلق، لكنه يرى في ذلك إشهاراً للفن، في وقتٍ لن يشتري فيه أحدٌ لوحة مهما أحبها، الطعام والشراب ومستلزمات الحياة أكثر أهمية، ولا خجل في ذلك ولا حاجة للشرح، بهذه البساطة لطالما تحدّث محمد الركوعي عن التزامه بقضيته، واضعاً هويته وألوانه ومدينته، وكل ما أثمرت عنه حياته الحافلة بين يدي الجميع، يدعوهم

ليتأملوا فلسطين التي أخلص لها دائماً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
(وثيقة وطن) تكرم الفائزين بجوائز مسابقة "هذه حكايتي" لعام 2024..  د. شعبان: هدفنا الوصول لحكايا الناس وأرشفة القصص بذاكرة تحمل وطناً بأكمله معلا يتفقد أعمال تنفيذ ملعب البانوراما في درعا ويقترح تأجيل الافتتاح بسبب تأثر المواد اللاصقة بالأمطار الوزير الخطيب: القانون رقم 30 يهدف إلى حماية بنية الاتصالات من التعديات الوزير صباغ: إمعان الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يعبر عن سياسات إرهابية متجذرة لديه الجلالي يبحث مع أعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية صعوبات العمل ووضع حد لأي تجاوزات قد تحدث طلاب المعهد الصناعي الأول بدمشق يركّبون منظومة الطاقة الشمسية لمديرية التعليم المهني والتقني أجواء الحسكة.. عجاج فأمطار الأضرار طفيفة والمؤسسات الصحية بجهوزية تامة لمعالجة تداعيات العجاج انطلاق فعاليات أيام الثقافة السورية في حلب بمعرض للكتاب يضم ألف عنوان أين وصلت عمليات الترميم والتأهيل لمتحف معرة النعمان وماذا عن متحف حماة وقلعتها؟ بسبب العاصفة.. أضرار مختلفة في الشبكة الكهربائية باللاذقية