القداسُ الجنائزيّ (الركويم) لـ«موتزارت» صرخةُ شابٍ يأبى أن يفارقه الموت

تشرين- إدريس مراد:
ألف (موتزارت) خلال مسيرته ما يقارب الخمسين عملاً كورالياً كنسياً، عدّ أغلبها جزءاً من مهامه المملة في خدمة الأسقف كولوريدو أو تلبية طلبات بعض الأرستقراطيين في مناسبات عدة، أما ما ألفه من تلقاء نفسه ضمن هذا الشكل الموسيقي، فبقيّ ناقصاً لفتور الإلهام لديه، ولاسيما بعد القطيعة مع أسقف سالزبورغ، وبهذه القطيعة لم يبق أي مسوّغ لديه في تأليف الأعمال الكنسية.
القداس الناقص
ومن الجنائزيات التي كتبها من نفسه، نذكر على سبيل المثال «قداس ك 427» الذي ألفه كنذر يفي به حين تتماثل خطيبته كوستانزا للشفاء، لكن القداس لم يكتمل لانشغاله ببعض تأليفات أخرى، وأجل العمل فيه أكثر من مرة، وفيما بعد قدمه ناقصاً في سالزبورغ عام 1783، ولكن بمناسبة الولادة الميسرة لزوجته كوستانزا.
لم يكن الإيمان مصدر إلهام عند موتزارت، كما هو الحال عند: «باخ وسيزار فرانك وميسّيان»، وإن لم يكن ملحداً فقد ظل إيمانه طفولياً وهامشياً من دون خلفية فكرية أو فلسفية.. بمعنى، بقي إيماناً متوارثاً ليس إلا، ولعل لتجربته القاسية مع الأمير الأسقف كولوريدو مالك السلطتين الدينية والدنيوية دور في توخيه الحذر من مقاربة أصحاب المراتب الدينية وفنونهم.
ما كتبه لنفسه
وعند الحديث عن جنائزيات موتزارت ينبغي الحديث عن آخر قداس كتبه في حياته، وهو القداس الجنائزي (الركويم).. إذ يتفق النقاد على أن الركويم أعظم موسيقا ألفت في ظل جناح ملاك الموت، سيرة ذاتية لعبقرية شابة على فراش الموت تنبعث منها صرخة شاب يأبى أن تفارقه.. تراجيديا تصف بقسوة محاولات موتزارت، الإنسان الشاب مراضاة الموت أو على الأقل التآلف معه، وتصور كيف ينتهي بالرضوخ له والقبول به كحقيقة مطلقة،.. عمل يجمع بين الرهبة والخشوع والغناء الرائع، ويرحب بالموت كسبيل خلاص من عذاب الدنيا، ورغم اعتماده نصوصاً كنسية تقليدية، فالاستماع إلى ما وراء السطور وما بينها يضعنا أمام عمل مأسوي ينضح ألماً، عمل بعيد كل البعد عن طقوس وروحانيات طلب الشفاعة واستجداء المغفرة، وفي الواقع قلة قليلة تلمس في ركويم موتزارت صدق تجربة شخصية، فمن لم يشهد احتضار شاب في عمر موتزارت لن يدرك أعظم درجات صدق التجربة الشخصية لمؤلف الركويم، فالشاب المحتضر يرفض، ويحتج ، ويتمرد، ويصرخ رافضاً لحظة الموت لكنه يرضخ في النهاية، ويستسلم لقبضة الموت ولحقيقتة المطلقة.
هذا العمل رغم طابعه الكنسي ليس دينياً بحتاً، بل هو خليط من عناصر فكرية اعتنقها موتزارت، بعض المقاطع منها يوحي بالثورة أكثر مما يوحي بالصلاة، وفيه إيغال عميق في مجاهل الهارمونية، غير مألوف في أعمال ذلك العصر، أما المقطع المكتوب فيه لآلة الترومبون، فيخلق لدى المستمع انطباعاً بأن عازفه يعرض مهاراته ومقدراته بدلاً من إعلان اللحظة الرهيبة ليوم الدينونة.
سوسماير وإتمام الركويم
لم يكتمل الركويم، مات موتزارت، وجرت محاولات عدة لإتمامه، إذ قام (جوزيف إيبلر)، أحد طلاب موتزارت بالمحاولة الأولى مستجيباً لطلب أرملة موتزارت، وتقدم بعض الشيء في إعادة المقاطع الناقصة، لكنه تراجع تاركاً المجال أمام (سوسماير) أحد طلاب المؤلف الرئيس أيضاً، والذي رافق أستاذه في سنته الأخيرة وحتى لحظة الموت، وبدوره ساهم سابقاً في تنفيذ الإلقاء المنغم (ريسيتاتيف) لأوبرا (كليمنزا دي تيتو)، وحاز ثقة أستاذه المريض وتقديره، وعدّ أكثر المقربين اطلاعاً على النهج الذي كان سيتبناه موتزارت في استكمال تأليف الركويم.
أبقى سوسماير على كامل ما كتبه موتزارت، ونفذ توجيهات موتزارت ورغباته في طريقة التوزيع الغنائي والأوركسترالي بدقة، ويؤكد سوسماير في رسالة له إلى دار النشر بأنه أضاف ثلاث قطع من تأليفه مقلداً أسلوب أستاذه ومتأثراً به لعدم توفر ما يمكن الرجوع إليه من توجهات أو ملاحظات، وفيما يتعلق بالمقطع الختامي استعاد سوسماير ألحان مطلع الركويم، وكيّفها وفق متطلبات النص، كما أشار عليه موتزارت.. كما جرت محاولات أخرى من البعض فيما بعد، ولكن لم ترق إلى مستوى نسخة سوسماير.
الليلة الأخيرة في حياة موتزارت
وفي ليلته الأخيرة، يهمس موتزارت قائلاً «أشعر بمذاق الموت في فمي….إني أؤلف الركويم لنفسي»، لوهلة يصمت، ومن ثم يصرخ متمرداً «هل حان وقت الرحيل؟….هل حان وقت التخلي عن موسيقاي؟»….وحين تضيق المسافة بينه وبين الموت، واقتراب اللحظة، يهمس راجياً «كم أتوق لسماع (الناي السحري) مرة أخيرة»، الناي السحري من أحب أوبراته لقلبه، ويغني بصوت ضعيف مردداً إحدى الأغاني من هذه الأوبرا، عندئذ بدأ صديقه روزر يعزف ويغني آريا باباغينو، وترتسم ابتسامة بريئة على وجه الشاب موتزارت ويرحل بهدوء.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
معلا يتفقد أعمال تنفيذ ملعب البانوراما في درعا ويقترح تأجيل الافتتاح بسبب تأثر المواد اللاصقة بالأمطار الوزير الخطيب: القانون رقم 30 يهدف إلى حماية بنية الاتصالات من التعديات الوزير صباغ: إمعان الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يعبر عن سياسات إرهابية متجذرة لديه الجلالي يبحث مع أعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية صعوبات العمل ووضع حد لأي تجاوزات قد تحدث طلاب المعهد الصناعي الأول بدمشق يركّبون منظومة الطاقة الشمسية لمديرية التعليم المهني والتقني أجواء الحسكة.. عجاج فأمطار الأضرار طفيفة والمؤسسات الصحية بجهوزية تامة لمعالجة تداعيات العجاج انطلاق فعاليات أيام الثقافة السورية في حلب بمعرض للكتاب يضم ألف عنوان أين وصلت عمليات الترميم والتأهيل لمتحف معرة النعمان وماذا عن متحف حماة وقلعتها؟ بسبب العاصفة.. أضرار مختلفة في الشبكة الكهربائية باللاذقية الرئيس الأسد يصدر قانوناً يشدد الغرامات والعقوبات على كل أفعال التخريب أو سوء استخدام شبكة الاتصالات وبنيتها