المعركة باتت نوعية
الإصرار على فرض الأمر الواقع بوسائل القوة – لا الشرعية القانونية والتاريخية – يعني وصول الأمر في الشرق الأوسط إلى الباب المسدود، وهذا الأخير يعني العودة إلى الحرب، كانت الحرب متوقعة، وهي حتمية بالنسبة إلى ذلك الذي ما زلنا نخشى أن نسميه باسمه الحقيقي: الاحتلال، والاحتلال يعني المقاومة، وبقدر ما يطوّر الاحتلال في وسائل الإخضاع، تبتكر المقاومة أساليبها أيضاً في التحرر، الأخطر هنا أنّ المقاومة لا تنتظر شرعيتها من أي قوة أخرى غير الشرعية التّاريخية الموصولة بكرامة شعب يرفض الإهانة والاحتلال.
كانت عملية «طوفان الأقصى» ردّاً على كل الانتهاكات التي طالت المدنيين في بيت المقدس، على التصعيد الذي اتخذ أشكالاً جديدة، منها استعمال المستوطنين وتسليحهم في الحرب المباشرة على المجتمع الفلسطيني.
لم تخضع القضية الفلسطينية لشروط التقادم، لأنّ شعباً حيّاً لم يتوقّف يوماً عن المطالبة باستقلاله والكفاح التحرري، ليس لفلسطين ذاكرة مفصولة عن حاضرها، هناك معركة متواصلة، ووعي متنام بالحق الفلسطيني، ولا شيء على الإطلاق يمكنه أن يُخضع القضية الفلسطينية للتصفية أو يفرض عليها مسارات ملتبسة تحت سقف التحرر الوطني من ربقة الاحتلال.
الشروط الجديدة لعملية «طوفان الأقصى»، هي الوعي بأهمية التحام مكونات الشعب الفلسطيني، والتطور النوعي في الخطط والأسلحة، ما يربك قواعد الاشتباك، الحرب على الفلسطينيين لم تعد نزهة، وثمة ما هو أخطر، ألا وهو التئام الساحات ووحدتها، وكل ذلك جاء نتيجة الرّهان على القوة وتجاهل الحق الفلسطيني في الدوائر الأممية، وتجاوز الاحتلال كل الأعراف الدّولية في فرض الأمر الواقع.
يبقى أن تدرك المقاومة في الميدان أنها صانعة الحدث، ومربكة لكل الحسابات التي تلتف على الحق الفلسطيني، بل على التحليل السياسي ألا يستبق الأحداث، وألا يتحدّث عن سقوط روما واحتراقها، لأنّ مثل هذا، في مخرجات المعركة، قد يصيب الشعب العربي بالإحباط، تقتضي الواقعية القول إن المعركة بدأت، وقد تطول، لكن ثمن التحرر هو الصمود، فالاحتلال مُجبر وليس مخيراً على التصعيد، لأنه لا يتحمّل الضربة الواحدة، وفي الوقت نفسه إنّه يضرب حساباً للرّد، ولأنّ الرّد لم يعد منفرداً، بل إن وحدة الساحات وتنسيق عمل المقاومة سيجعلان المعركة أبعد مدى.
الشرق الأوسط قائم بدوله وشعوبه، وليس رهينة لقوى دخيلة، هذه حقيقة بديهية حجبها عماء الإفراط في استقواء الاحتلال، ربما في حرب الخليج كانت الأمور أقل تعقيداً من اليوم، هناك التئام أكبر بين الساحات، وأنّ ما كان يبدو «جيشاً لا يُقهر»، أصبح في وضعية صعبة، تحلّل الاحتلال بات أكثر من ممكن.
حتى الآن لم يستطع الاحتلال أن يطور من أدائه، حيث ما زال مجبراً على تبنّي أسطورة الرعب الخالدة، العالم يتغير، والمنطقة تتغير، والنموذج الإرشادي للحروب الكلاسيكية تغير، وجهوزية جيش الاحتلال لتكرار التجربة تتراجع، والأزمة الخانقة داخل الكيان، وتفككه السياسي والاجتماعي، كل هذا أدى إلى مزيد من الارتباك.
ليس في وسع الاحتلال، كما يفعل خلال هذه الليلة نفسها، إلاّ أن يستهدف المدنيين، وكان أحرى أن يتعلموا من روبرت سميث الجنرال البريطاني الذي خاض حرب الخليج وأدرك لا جدواها، كيف أن استهداف المدنيين يشلّ معنى الحرب الكلاسيكية.
إنّ المقاومة أدركت أنها كانت مستهدفة قريباً بخطة أنجزها الاحتلال، وتهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر شلّ المقاومة بضربات تبدو له ممكنة، هي إذن حرب استباقية في سياق مشحون بالتوتر وتعقد معضلة الشرق الأوسط، فكل المقدمات والسيناريوهات المطروحة تدفع باتجاه خوض حرب تدميرية وفتح المجال لموجة جديدة من التأزيم الإقليمي، لكن تظل النتائج السياسية للعملية إجبارية، لا سيما في ظلّ الثقة التي بات يشعر بها الاحتلال، الذي راهن على سياسات تتجاهل الفلسطينيين وتُأقلم النزاع، وما يتجاهله الجميع هو أنّ عملية الاستفراد بالشعب الفلسطيني هي من كبرى الأوهام اليوم، كما أنّ المعني بالشكل والطريقة لتحرير فلسطين هو الشعب الفلسطيني نفسه.. إنّ تنامي عمليات المقاومة وانفجار الانتفاضة هما وحدهما اللذان سيغيران مسار القضية، ليس الاحتلال وحده من يحدد مصير المعركة، فهناك معادلة معقدة، تُفقد كل الرهانات الكلاسيكية جدواها.
هذه العملية النوعية أظهرت للاحتلال وللعالم أنّ هناك شعباً أفرز قوى مقاومة وشكّل بيئتها الحاضنة، وأنّ الفلسطيني هو من يمنح شرعية المقاومة، ولا يمكن لأي شرعة دولية أن تخالف إرادته أو تحول دون حقه في تقرير مصيره، إنّما كل عملية نوعية ترفع سقف التّحدّي، ترسم تاريخ المستقبل الذي لا رجعة فيه.