بُعدٌ ثالثٌ للانتصار
مهما أُتخِمتْ الذاكرةُ بتراكم الأحداث الجِسام التي عصفتْ بها، على مرّ اثني عشر عاماً، توازي قرناً بكثافتها، تبقى ذكرى انتصار «تشرين» علامةً فارقةً حقيقيّة لن ننساها، ولن يخبو بريقُها في حياتنا، نحنُ السوريين، بل؛ ولعلّها إحدى أهمّ محطّات شحذ ذاكرتنا الجمعيّة، لا؛ لأن الذكريات القديمةَ تبقى راسخةً، وإنما لتجدّدٍ تكفّلت به حالةُ المواجهة المستمرة مع عدوٍ هو ذاتُه، ولو باستنساخاتٍ متبدّلة ومتعددة الأدوات والحِراب.
هذه حقائقُ لا إنشاءُ ؛ على الرغم من أن الكتابة في الشأن الوطنيّ تحتملُ الإنشاءَ للتعبير الجزل عن مكنونات الوجدان..والوطنُ وجدانٌ على كلّ حالٍ.
وكمْ كنّا نتوق للاحتفاء بذكرى «تشرين» على إيقاع ورشات التنميّة والنماء والكدّ لإنجاز استحقاقاتِ مستقبلٍ لا تقبلُ التجاهلَ، ليكون احتفاؤنا مجردَ التفاتةِ فخرٍ لحدثٍ مُضيء، اندرجَ في التاريخ الحديث لسورية والعرب، بكلّ ما تجودُ به مفرداتُ اللغة من مرادفات الاعتزاز؛ لكنَّ ثمة أقداراً قاسية يبدو أنها تصرُّ بعنادٍ على إبقاء هذه البلاد في قلب دوّامات الاستهداف، وتالياً؛ استحقاقات المواجهة الصعبة، دفاعاً عن تاريخ مشهودٍ وجغرافيا تأبى دنسَ كلّ محتلٍّ.
وتؤكدُ مجرياتُ الأحداث الإقليميّة والعالميّة أننا، كما معظم دول المنطقة، في أتونِ معركةٍ غير تقليديّة مديدةٍ وبعيدة المدى، لم تعد قابلةً للحسم على طريقة «غالبٍ ومغلوبٍ»، لذا تبدو المعركةُ والاستحقاقُ الأهمُّ، بالنسبة لنا في سورية، هما « معركةُ التنمية»، وعلينا إسقاطُ المقولة القديمة التي تزعم أنْ لا تنمية في مناخات التوتّر، فلمْ يعدْ من الحكمة انتظارُ استقرارٍ مؤجّل في منطقةٍ باتت مسرحاً لتنازع مصالح دوليّة كبرى؛ إذ يغدو الانتظارُ هدراً وضياعَ فرص بناءٍ وتنمية، وفي المحصلة؛ نمو من النوع الموثّق بأرقام؛ وقد انحدرت الحربُ على سورية بأرقام ومؤشّرات الناتج والاقتصاد الكليّ إلى مستوياتٍ متواضعةٍ، وهذا في حدّ ذاته ما تريدُه، وتسعى إليه كلُّ القوى التي استهدفتْ، و تستهدفُ سورية.
بالفعل؛ تغيرتْ المفاهيمُ، وتبدّلت قواعدُ اللعبة على نحوٍ واضح، وغدا من الملحّ جداً التأقلمُ والتماهي مع الواقع الجديد، وليكنْ العنوانُ الاستراتيجيُّ اليوم هو «تنميةٌ ضدّ الأزمات».
قد يبدو العنوانُ غريباً بعضَ الشيء، لكنّه موضوعيٌّ وواقعيٌّ في الأدبيّات المستجدّة والمُقحمة عنوةً.
فالتنميةُ تعني البقاءَ والاستمرارَ، والأمنُ باتَ أمناً غذائياً قبل أيّ اعتبارٍ آخر، والتنميةُ بحدودٍ معيّنة هي المواجههُ الحقيقيّةُ لحرب الإفناء البطيء التي تُشن على دولٍ وشعوب، ليبقى الانتصارُ انتصاراً تنموياً في بعده الثالث؛ أيْ في عُمق المفهوم.
انتصرنا في «تشرين»..وجدّدنا الانتصارَ مراراً عبر خمسين عاماً منذ «تشرين ١٩٧٣» وحتى اليوم، وسننتصرُ في المعركة التنمويّة؛ لأنّه، باختصارٍ، لابدّ من الانتصار.