الموسيقيُّ السوريّ «ضياء السكري».. أعمالٌ موسيقيّة خالدة
تشرين- إدريس مراد:
جاء ولع المؤلف الموسيقي ضياء السكري بالموسيقا الكلاسيكية العالمية من والده العاشق لهذا النمط الموسيقي، والذي أصر على أن يعلّم ولديه «ضياء ونجمي» الموسيقا بطريقة أكاديمية، وأن يكون أستاذهما الأول على آلة الكمان الروسي المقيم في مدينة حلب «ميخائيل بوريزينكو»، ولم يقف الوالد هنا، بل تابع بجهود حثيثة مع الأستاذ بوريزينكو ، لكي يكون لولديه نصيب من الدراسة في أوروبا، وكان له ذلك، إذ سافر «ضياء ونجمي» إلى باريس بناء على مرسوم إيفاد عام 1951، وهما في الثالثة عشرة والثانية عشرة من العمر، وقد وافقت الحكومة السورية آنذاك على إيفادهما بعد حفلة عزف فيها الأخوان أعمالاً صعبة لكبار الموسيقيين بحضور رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي وضيفه الملك عبد العزيز آل سعود الذي كان في زيارة لسورية.
الدراسة في فرنسا
في باريس استقبلهما صديق للوالد ريثما يستقر بهما المقام، وسجلهما في مدرسة داخلية يتابعان الدراسة فيها حتى يتم اجتياز مسابقة القبول في المعهد لاختيار عدد من الطلاب لايتجاوز عدد أصابع اليدين من بين أكثر من مئة متقدم.
قرر ضياء متابعة علوم التأليف الموسيقي، فدرس كامل العلوم المتعلقة بفنون الكتابة الموسيقية، وهكذا درس الهارموني وكونتربولن وفوج والتأليف إضافة إلى قيادة الأوركسترا.
الارتباط بإرث الوطن
رغم انخراطه في المجتمع الباريسي، وهو في مقتبل يفاعته، ولكنه لم ينس موسيقا وطنه التقليدية والشعبية، بل وتعمق في دراسة مقاماتها وإيقاعاتها المختلفة، فاستوحى منها العديد من الأعمال منها «بعل وعناة»، و«عشتار والموجة»، كما تأثر بالخط والزخرفة العربيين ونسج جملاً موسيقية منهما، وذلك بلغة عالمية من دون المساس بهيكلية التراث بعيداً عن التشويه، وبدا واضحاً تأثره بعمالقة الموسيقيين الفرنسيين مثل «ديبوسي، رافيل، فرانك، فوريه، بولانك…» وغيرهم.. يقول ضياء السكري في إحدى كتاباته «إن الحضارة التي اكتسبتها من الغرب ما هي إلا امتداد للمخزون الحضاري الذي أحضرته معي من الشرق، وأنا لا أعدّ نفسي أوروبياً ولا شرقياً، بل أنا الاثنان معاً…».
أعمال موسيقية متنوعة
تنوّعت أعماله بين الموسيقا الآلية (الصرف) والموسيقا الغنائية، وله أعمال للآلات المنفردة والحجرة، إضافة إلى الكورال والأوركسترا.. رأى ضياء عناصر موسيقية قوية في صوت الحرف العربي وفي التجويد والآذان وحتى في الأدوات المستعملة في حياتنا اليومية، وقد كانت الأوزان الشرقية ذات خصوصية لم يعرفها الغرب إلا قليلاً، إضافة إلى المقامات الكثيرة ذات الطابع المميز، فأراد أن يستفيد منها كلها، وقد ألهمته القصص والحكايا العربية والزخارف الموجودة على الألبسة الريفية في كل أنحاء سورية، فكانت الموسيقا التي ألفها ذات طابع غربي وروح شرقية من حيث اللحن والوزن والشكل، كما تناول ألحاناً شرقية معروفة، عالجها بلغة موسيقية عالمية هارمونياً.
ومن أعماله التي استلهمها من الخط والزخارف «انس ماعلمت»، وألف موسيقا لمرافقة إلقاء القصائد الصوفية، والتي احتوت آلات شرقية وآلات غربية مع وجود الأوزان الشرقية ليعطي نغماً فريداً من نوعه، ومن قصص ألف ليلة وليلة، كتب لفرقة كورال أطفال بمرافقة البيانو تجسد قصة حاكم المدينة الخضراء شاه زاد الذي أراد أن يزوج تاج، مستعرضاً فيها وصف الحاكم والرحلة للتعرف على الفتاة ومن ثم وصف الفتاة.
تكريم في حلب
نفذت بلدية حلب مشروع تسجيل أعمال ضياء السكري الموسيقي السوري القاطن في فرنسا المكتوبة لثنائي آلتي الكمان والبيانو، كشكل من أشكال التكريم له، وتوج هذا التسجيل بحفل موسيقي في حلب ضم بعض الأعمال الموسيقية وذلك بأداء حي شارك فيه عازف الكمان السوري المقيم في فرنسا أيضاً والذي سبق له وسجل بعض أعمال السكري ضمن ألبوم ليزري في فرنسا إلى جانب بعض المؤلفين الموسيقيين العرب، وأيضاً شارك في الحفل المذكور كاتارينا بيغوفيتش على البيانو، وعازف البيانو السوري الشهير غزوان الزركلي عام 2010.
كتب في علم الموسيقا
لم يقتصر نتاج ضياء السكري على التأليف الموسيقي فحسب بل اهتم بالعلوم الموسيقية والكتابة وكيفية تسهيل وتبسيط هذه المواد للطلاب، وصاغ هذه الكتب بطريقة سهلة الاستيعاب ولاسيما لليافعين، إضافة إلى تأليف بعض الكتب تتعلق بالقراءة الموسيقية والصولفيج للطالب والمدرّس، واعتمد جلّها في معاهد باريس وغيرها، كما طبعت له وزارة الثقافة السورية كتاب «الهارموني» المعرّب، للاستفادة منه في تدريس هذه المادة في سورية.
بين حلب وباريس
ولد المؤلف الموسيقي ضياء السكري في مدينة حلب عام 1938، تعلّم العزف على الكمان على يد الروسي «ميخائيل بوريزينكو»، كما درس في المعهد الموسيقي الشرقي بدمشق، وأوفد إلى فرنسا لدراسة الموسيقا صغيراً، إذ درس في المعهد العالي للموسيقا في باريس، ومن أعماله أيضاً نذكر «المتتالية السورية»، «سين» وهو اسم إله القمر عند الكلدانيين، و عمله «أنشودة المغيب» و «أغان من أورنينا»، و «ريح الرمال»، و «موزاييك»، ومن الواضح من هذه العناوين أنه اهتم بشكل جلي بالحضارات السورية وأساطيرها.
توفي عام 2010 في باريس، إذ ناهز اثنين وسبعين عاماً، ودفن في مسقط رأسه حلب، تاركاً خلفه إرثاً موسيقياً كبيراً يقدم على كبريات المسارح العالمية.