المدينةُ الفاضلةُ.. «تشهّي» مشروع بين عمق الفلسفة وتخيّلات الشّعراء
تشرين- راوية زاهر:
إلى أيّ حدٍّ صار البحث عن شذراتٍ لمدن فاضلةٍ، أو مشتهاة أمراً ممكناً في ظل غياب كلّ مقومات الحياة الكريمة في حدودها العليا والدّنيا في شرق هذا العالم ومغربه.. فالمدن الفاضلة طالما كانت هاجس الشّعراء والكتّاب والمسرحيين والفلاسفة، مندفعين من رغبة إنشاء مكانٍ يليق بالإنسانية، وتسوده العدالة والمحبّة والرضا والتّوزيع العادل للثّروات.. ولكن مع تطور المدنيّة وانتشار أسلحة القوة، تضاءلت فرصة إنشاء مدنٍ فاضلة، أو حتى زواريب فاضلة.. فنحن في تعويمٍ مرعبٍ للدّمار والحروب والظلم والتّجويع ودفن المبادئ والقيم.. والإنسانية اليوم في مقبرة جماعية للفوضى والعدمية إلا مارحم ربي.. وبات البحث في عوالم مثالية ضرباً من الخيال.
غير أنّ رغبتنا الدائمة في نبش أصول البحث عمن استساغوا البناء والتعمير والحبّ تدفعنا للغوص في نتاجات الكثير ممن حاولوا رسم حلم مشتهى لمدن الفضيلة والخير. وبدايةً سنتوقف عند أوّل من رسم حدوداً وأسساً ومعايير لهذه المدينة في كتابه (الجمهورية)؟ أو المدينة الفاضلة للفيلسوف اليوناني (أفلاطون).. فالمدينة الفاضلة هي أحد أحلام الفيلسوف أفلاطون، وهي مدينة تمنّى أن يحكمها الفلاسفة وذلك ظنّاً منه أنهم بحكمتهم سوف يجعلون كلَّ شيءٍ معياريّاً وتالياً ستصبح فاضلة.
وقد دارت رؤاه مع تلميذه أرسطو، وهما يمثلان العصر الذهبي للفلسفة اليونانية حول أسس المدينة الفاضلة والتّربية الاجتماعية في هذه المدينة والحكومة المشرفة عليها، والجدير ذكره طرد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة بحجّة أنهم يقدمون المعاني الفاسدة ويثيرون العاطفة التي تبعد المتلقي عن الحقيقة، وتعتمد على التخييل، وتهدم الأسس الأخلاقية.
أما الفارابي وكتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها).. فالمدينة الفاضلة من وجهة نظر الفارابي: هي المدينة التي تتحقق فيها سعادة الأفراد على أكمل وجه، ولا يكون ذلك إلا إذا تعاون أفرادها على الأمور التي تُنال بها السعادة، واختص كلٌّ منهم بالعمل الذي يحسنه وبالوظيفة المهيّأ لها بطبعه.. وكتابه هذا حاول فيه تكوين صورة عن مجتمعٍ فاضل من نوع المجتمعات التي فكّرت فيها من قبل طائفة من فلاسفة اليونان كجمهورية أفلاطون، وقد أراد أن ينشئ مدينته وفقاً للمبادئ الرئيسة التي تقوم عليها فلسفته وآراؤه في السعادة والأخلاق والكون وخالقه وما وراء الطبيعة.. هذه المدينة الفاضلة من وجهة نظر الفلاسفة، فكيف سنستشرف ملامحها من وجهة نظر الشّعراء على الرّغم من طرد أفلاطون لهم ولتخيّلاتهم من جمهوريته؟
هنا سنرى نازك الملائكة يوتوبيا ضائعة، تجذب روحها نحو عالم الخيال لبلد من عطرٍ وروح من فكر.. إن خيبة أمل الشاعرة، ودعوتها إلى التحرر الفكري انطلاقاً من واقع المرأة، كان هاجساً يوتوبيا كبلد معطّر لا قيود فيه على الفكر، أصرّت فيها بعد خيبة الأمل على تكوّن الحلم وعلى البحث عن المدينة الفاضلة برسم ملامح هذا الحلم وضياع الماضي، وقد انتمت الشاعرة إلى المذهب الإبداعي القائم على الغنائية والذاتية، والتّحليق في الخيال وابتكار الصّور.
تقول عن سئمها من الضّياع وفقدان الأمل بتغير الواقع المعيش:
قد سئمت الواقع المُمّلا
ولقد عدتُ خيالاً مضمحلّا
فاتركيني في خيالي أتسلى.
لتعود وترسم لنا ملامح حلمها قائلةً:
ويوتوبيا حلمٌ في دمي أموت وأحيا على ذكره
تخيّلته بلداً من عبير على أفقٍ
حرتُ في سرّه
هنالك حيث تذوب القيود
وينطلق الفكر من أسره
وحيث تنامُ عيون الحياة
هناك تمتدّ يوتوبيا.
وسنتوقف عند شاعرٍ آخر، وهو اليمني عبدالله البردوني المشتهر بشعره الوجداني، إذ كانت له وقفة في أحد دواوينه مع مدينةٍ مشتهاة (مدينة الغد) فيها الإنسان في كل زمان ومكان يسعى للنهوص بواقعه، وتحقيق مجتمعٍ أفضل، وقد شكّل الأمل في تحقيق مدينة المستقبل حلماً للأدباء على مرّ العصور..
هذه المدينة التي ستعيد الألق والحبّ للحضارة الإنسانية، فتغدو عاجزةً عن وصف حسنها وبهائها.. فقال في حلمه المتخيّل شعراً عن مدينة المستقبل مستبشراً الخير والأمل :
ذات يومٍ ستشرقين بلا وعدٍ
تعيدين للهشيم النّضارة
تزرعين الحنان في كل وادٍ
وطريقٍ في كلّ سوقٍ وحارة
سوف تأتين كالنبوءات كالأمطار
كالصّيف كانثيال الغضارة
وتصوغين عالماً تثمر الكثبان
فيه ترفّ حتّى الحجارة.
ويبقى السّؤال هل سيستمر الحلم بمدينة فاضلة بعد أن امتلأت مجلدات الكتب بمقابر لهذه المدن على مرأى روّاد الفكر وعشاق اليوتوبيا والحلم؟!