الشكل التقليدي لقصيدة «أميرة الحبق والعشق» للشاعر توفيق أحمد
تشرين- بلال حسن أحمد:
هل تستطيعُ القصيدةُ العمودية حَمْلَ معطياتِ الحداثةِ الشعرية أم أَنها عاجزةٌ وَمقَيَّدةُ بالوزن والقافية, ما يجعلها أسيرَة الحَشْوِ والضروراتِ الإيقاعيةِ والنحوية لتُصبح ثقيلةً على الأذن وفاقدةً للحرارةِ ولكلِّ معاييِر الإبداع والجمال.
قصيدةُ الشاعر توفيق أحمد (أميرة الحبق والعشق) يتوافرُ فيها الكثير من شروط الحداثة من معانٍ وصُورٍ مُبْتَكَرةٍ وانزياحاتٍ ورؤى شفافةٍ ودلالاتٍ متعددةٍ وانسيابية، ومع ذلك أَخَذَتِ الشكلَ التقليديَّ للقصيدةِ العربية، وهذا يدفعنا إلى دراسِتها لمعرفةِ سببِ اختيار الشاعر لقيودِ الخليل، وهل شَكَّلَتْ قَيْدَاً حقيقياً له، أم أنه استطاعَ من سجنِهِ الشعري الذي حَبَسَ نفسَهُ فيه أن يُطلقَ كُلَّ مساحاتِ الحرية، وأن يستفيدَ من جمالياتِ ذلك السجنِ لتتضافر مع المعنى وتشكِّلَ جزءاً لا يتجزأُ منه، فيكونُ ذلك القيدُ عاملَ قوةٍ بدلَ أن يكونَ عاملَ ضعفٍ للقصيدة..
أولاً_ البنية الفكرية للقصيدة..
ينطلق الشاعرُ أحمد في قصيدته من تساؤل مشروع وبلغة بسيطة سهلة بعيدة عن التَكُّلفِ اللفظي والمفرداتِ الغريبة (هل لعينيكِ في المدى من رفاق؟!/ تَجمعانِ العُشَّاقَ بالعُشاقِ).. هنا يبتعد عن لغة الشعرِ القديمة والمباشَرة “إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ قَتَلْنَنَا.. ثُّمَ لَم يُحيينَ قتلانا” ويتجاوز بداياتِ الحداثة الشعرية عند السياب في (عيناكِ غابَتا نخيلٍ ساعةَ السَّحَرْ..).. معتبراً أنَّ تلك العينين تَمتلكان كلَّ معاييِر القداسةِ والجمال لتستحقا أن تكونا مَعْبَدَاً جامعاً للعِشْقِ، كما يبتعدُ الشاعرُ عن الأسلوب القديمِ المعتادِ في وصف العينين من سهامِ الرمش وقوسِ الحاجب ونرجِسِ الأحداق، “وهما عالمي ولو سألاني.. لاستحى الضوء والندى والسواقي” ليجعلَ من عينيِّ المعشوقةِ العالَمَ الذي يعيشُ فيه في جوٍّ من القَداسِة والبُعدِ عن الشكِّ، وإن أيَّ سؤالٍ حولَهما يجعلُ كلَّ ما هو جميلٌ ومشرقٌ من ضوءٍ وندًى وسواقٍ رقراقةٍ في حالةِ خَجَلٍ واستغراب.
“مَنْ إلى ناظريكِ زَفّ الليالي
راسماً لوحةَ الجَمال الباقي
نَشَرَ الصَّدْرُ رَهبةً في كياني
أَهْوَ نَوْءُ أم غابتا دُرَّاقِ
كَفُّكِ البضُّ في شتائيَ وَقْدٌ
يَزْرَعُ الدفءَ في الضلوعِ الرقاقِ”
تلك القداسةُ والرَّهبةُ في خلق وإبداعِ المعشوقة من قِبَل مُبْدِعِها والتي تَجَلَّتْ بأجملِ لوحةٍ وأحسنِ تقويم، تَجْمَعُ بين قوةِ الأنواءِ وبهاءِ البساتين وتَشُعُّ دفئاً وجمالاً وحُسْنَاً، فهي تحملُ معانَي البهاء في جَمالها وحكمةِ تكوينها. تلك المعشوقةُ التي يَنْظُرُ إليها بعينِ الرؤيا والخواطر حيثُ للكلمةِ لونٌ وطعمٌ ورائحةٌ:
“أنتِ في خاطري قصائدُ خُضْرٌ
كَتَبْتَها على المدى أشواقي
أنتِ كالفجرِ فتنةً وحياءً
وهْوَ يَمْتاحُ من دمِ الأشفاقِ
أبحثُ الدَّهْرَ عن تَجَنٍّ لطيفٍ
غيرَ عينيكِ جانياً لا ألاقي
هي قصيدةٌ خضراءُ تنبضُ بالخصوبة والخَلْقِ والإِبداع، وهي الفجرُ المتجددُّ الذي يُعلنُ بدايةَ النهار.. وهي ملاكٌ يَبْعَثُ على الجَلال والتعفُّفِ:
“ما جلالٌ تعففُّي أًو وَقارٌ
حين كالصيف تدخلين رواقي
حين كالصيف تدخلين جراحي
أنتِ أشهى من أًلْفِ أَلْفِ عِناقِ
حين كالصيف تدخلين زماني
تَسْتَحِمُّ الروحان بالإشراق”
حيث تدخل إلى عالم الشاعر مثل الفصول المشرقة، وتمتلكُ القُدراتِ الخارقةَ على الشفاء، بل على نَقْلِ حياةِ الشاعر إلى عالم روحاني مليءٍ بالغبطة والإشراق.. تلك المعشوقةُ الروحانيةُ التي تُحيطُ الشاعرَ بوهج نورانيٍّ يَجْعَلُهُ يمتطي صهوةَ الجموح ويَطيرُ في سماءٍ متراميةِ الآفاق:
“أُسْرِجُ الوهْجَ صَهْوَةً من جُموحٍ
تترامى من خلفهِ آفاقي
دافقٌ وصْلُكِ الشهيُّ وحَسبْي
أَنْ تسامَيْتُ بالهوى الدفّاقِ
لحظةَ الوعد يا حبيبةُ أخشى
بعد حينٍ من لحظة الافتراق”
ليعيشَ متسامياً عن المعاني الدنيوية في ينابيعَ سماويةٍ دفَّاقةٍ تجعلُهُ يخشى فِراقَها قَبل اللقاء ومنذُ لحظةِ الوعدِ المأمول.. إنها تجعلُ زمَان الشاعر مُشْرِقاً وجميلاً يدعو إلى التعلُّقِ به لا الهروبِ مِنْهُ:
“مالَنا والزمانُ نَهْرُبُ منه
وهْوَ للعُمْرِ مُسْرِفٌ في التلاقي
داعبي حُلْميَ الجميلَ وكوني
في جحيمي مجامرَ الاحتراقِ”
وتجعلُهُ يتلذَّذُ بنارها، ويدعوها لإيقادِ لهيبِها المقدسِ في جحيمِ هذه الحياة، لتعطيها المعنى الذي يَحملُهُ على العيش والاستمتاع بها.. وينحى الشاعرُ منحىً صوفياً في عِشْقِهِ مُتَّجِهاً إلى عالَمٍ عِرفانيِّ يذوبُ فيه المحبوبُ بمحبوبِهِ في حالةٍ من السُّكْرِ الروحاني:
“خمرةُ الصَّدْرِ عتِّقيها فإني
أفتحُ العمر بالخمورِ العِتاقِ
وافرشي الليلَ كُلَّه بالحَكايا
يَسْكَرُ الليلُ من حَكايا الرفاقِ
ها هو الشِّعرُ شامخٌ يتحدى
حيث تَطويكِ بينها أوراقي
ليجدَ نفسَه قائداً لفتوحاتٍ صوفيةٍ عظيمةٍ بفعل خمورِ الحبيبة المُعَتَقَّةِ وحكاياتِها المدهشة، فهو يتحدى كلَّ أساطين الشعر عندما يَكْتُبُ عنها.. ويختتمُ الشاعر رائعتَهُ بِفَتْحٍ جديدٍ في مملكة العشق والشعر فهو غَيْرُ /ابنِ المُلَوَّح/ تُجاه ليلى العامرية، وإنما عاشقٌ روحانٌّي يسافرُ في بحارِ العشقِ والشّعرِ المقدَّسة…
“لستُ قيساً طبيبَ كلِّ زمانٍ
لستِ ليلى مريضةً في العراقِ
حَسْبُنا العِشْقُ جمرةً تتلظَّى
ووفاءً مقدَّس الاعتناقِ”.
والمُلاحَظُ أن الشاعرَ أحمد استطاع اصْطياد توليفَةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ من المفردات من بَحْرٍ واسعٍ اخْتارَ منه الجميلةَ والمألوفةَ دون المتوحشّةِ والغريبةِ، فمنذ البيتِ الأول.. عينيِك.. المدى.. رفاق.. والضوءُ والندى والسواقي”، وكان يستطيع قول /مَنْ إلى مقلتيكِ زف الليالي/ دون أن يَنْكَسِر الوزن، ولكنه اخْتارَ /ناظريْكِ/ المفردَةَ القريبةَ من الناس رابطاً لوحَة الجمال بالنظر إليها، لأن العين تنظُرُ إلى الجَمال قبل تأمُّلِه، ما يَجْعَلُ مُفردَة (ناظِرْيَكِ) أكثرَ انسجاماً مع النَّص من (مقلتيكِ).. ويَميلُ الشاعرُ في قصيدته إلى استخدام الألفاظ الرهبوتية التي تعبر عن النَّسْكِ والقداسِة والتعبُّدِ الروحاني للمعبود.. ” الصدر الرهبة.. الجلال التعفف الوقار.. إضافةً إلى الألفاظ التي تدل على العفوية والفطرية الأولى فيقول: غابتا دُرّاق ولَم يَقُل (جنتا دراق)/ فالدراق ليس شجرَ غابات، ولكنَّ الشاعر آثر لَفْظَ الغابة الذي يدلُّ على الفطريةِ والتلقائية، لأنه يُريدُ للمحبوب جَمالاً فطرياً بِكراً لَمْ تَدْخُلْ اليدُ البشريةُ فيه.. كما جعل الشاعرُ للتراكيب والجمل أجنحةً من خلال ابتكارِ علاقاتٍ جديدةٍ بين الأشياء /(دُم الأشفاق، قصائدُ خُضْرٌ، الهوى الدَّفاق، صهوةٌ من جموح/ – /كالصيف تدخلين جراحي، افرشي الليلَ بالحكايا، أُسْرِجُ الوهْجَ../. فهو يجعل للقصيدة لوناً وللهوى مجرىً وللوهج صهوةً يمتطيها….
ثانيا.. البنية العاطفية..
ويضعنا الشاعر في جو عاطفي مليء بالرهبة.. والجمال المُحاط بالجَلال والقداسةِ والحُبِّ الخاِلصِ البعيد عن الشَّهوات الحسية.. الحُبُّ الذي يذهب به أَبْعَدَ من مجانينِ عُذْرَةَ إلى حالةٍ عقليةٍ روحانية مُدْرِكةٍ لجمال المعشوق الذي يستحقُّ الذوبانَ به والسُّكْرَ في عالمِهِ.. فهو يستهلُّ النصَّ بدفقةٍ عاطفية يبعثُها التساؤُل /هل لعينيك في المدى من رفاق؟!/ ليؤكد في البيت الثاني. /وهما عالمي/.. أنه تساؤُل وليس سؤالاً..
ويستمرُّ في ذلك الجو العاطفي المليء بالدهشة والتعفف والوقار أمام تلك اللوحة البديعة الأشهى من كل المعاني الحسية وأشهى من ألفِ ألفِ عناقٍ.. وهي تَبْعَثُ في المُتَلَقِّي الشعور بالرهبة والجلال والشموخ والتحدي: “ها هُوَ الشِّعْرُ شامخٌ يَتَحَدَّى.. حيثُ تطويكِ بينَها أوراقي”.. كما تَبْعَثُ على الشّعورِ بالغبطة والحبور والتسامي والوفاء وكلِّ المعاني والمشاعر المقدسة والجميلة.. بتناغُمٍ عاطفيٍّ مُبْعَثُهُ الانسجامُ العفويُّ بين المعاني والإيقاعُ الموحَّدُ الذي جاء على شكل موجاتٍ عاطفية متناغمة بعيداً عن الرَّتابَةِ والإقْحَامِ.. كان مَصْدَرُها /البحر الخفيف/ بتموُّجاتِهِ العاطفية والإيقاعية، التي حَمَلَتْ أنفاسَ الشَّاعر ومعانيه عبر دَفَقَاتٍ إيقاعيةٍ تناغمت مَعَ الدفقات الشعورية وتواشَجَتْ مع المعنى لتُشَكّلَ بناءً شِعْريَّاً شعورياً مُتْرَفاً بالجمل الموسيقية حاملةً المعاني والمشاعر بأعلى تَجلِّياتِها، لِتُبْدِعَ تلكَ القصيدةَ /اللَّوحَة/.
ثالثاً.. البُنْيَةُ الموسيقية..
أما الموسيقا بِقَيدِها الاختياري فلم تمنعِ الشَّاعرَ منَ الإبحارِ بِأَشرعةِ الكلمات إلى أبعدِ مدى دون أن يُقْحِمَ قوافيَهُ المتماسكةَ والتي جاءت وكأنها لعبةٌ تركيبيةٌ لا تَصْلُحُ إلا في هذا المكان وأيُّ كلمةٍ أخرى ستكونُ دخيلةً ومُقْحَمَةً ومُنْفِّرةً للأذن.. هل لعينيكِ في المدى من رفاقِ/ تجمعان العشاق.. بالعشاقِ../ فهل تصلح كلمةٌ أخرى غيرَ بالعشاق.. ليكتَملَ المعنى وتكتملَ الصورة.. ذلك القيد.. البحرُ الخفيف الذي جاء خفيفَ الرُّوح في تموُّجاته الناتجةِ عن الانتقال من الهدوء المريح الذي تبعثُهُ تفعيلتُهُ الأولى فاعلاتن إلى الارتفاع والسمو في التفعيلة الثانية مستفعلن.. لتعودَ إلى هدوئها وراحتها في الضرب والعَروض فاعلاتن.. فكان البحرُ مناسِباً تماماً لِلَبوس القصيدة وعلى قياسها حَفْراً وتنزيلاً وقادراً على استيعابِ الدَّفقاتِ الشُّعوريةِ للنص وحَمْلها إلى المتلقي في جوٍّ من القَداسةِ والعرفان.. والمُلاحَظُ أَنَّ تَفعيلةَ الحَشْو /مستفعلن/ جاءت في مُعْظَمِ الأبيات على الجواز /مُتَفْعِلُنْ/ “هل لعينيكِ في المدى من رفاق..
وهما عالمي ولو سألاني..” لأنها أَخَفُّ على الأذنِ وأكثرُ رِقَّةً وقُدرةً على حمل المشاعر العاطفيَّةِ الشفافة التي تَجيءُ عَفْوَ الخَاطِرِ حاملةً كلَّ شُحْناتِ الشعورِ الدافئة.
رابعاً.. الصور والأخيلة والانزياحات..
القصيدةُ مليئةٌ بالانزياحات الدلالية التي جعل ملعَبِها عَيْني المعشوقة اللتين تَخْرُجانِ عن طبيعتِهِما المألوفةِ فَيُؤَنْسِنَهُما حيناً ويُجَسِّمَهُما حيناً آخر ويجعلهما بَشَراً لهما رفاق وعَالم خاصَّ به، بينما الصَّدْرُ نَوْءٌ وغابتا درَّاق، وللقصيدةِ لونٌ وللوهجِ صهوةٌ ويجعلُ الوَصْلَ نَهراً دَفَّاقاً والشِّعْرَ جَمْرَةً متقدة.. لقد أَبدَعَ الشاعر صُوَرَهُ وأَخْيِلَتَهُ في عالمٍ من الاستعارات الجديدة والصور المُرَكَّبَةِ والمُبْتَكَرة من خلال أَنْسَنَةِ الأشياءِ وتشخيصِها، فالضَّوءُ والمدى والسواقي كائِناتٌ بشريَّةٌ تستحي.
وهو يبدع في تركيب الصور الجديدة
“أُسْرِجُ الوَهْجَ صَهوةً من جموحٍ
تترامى من خلفه آفاقي”
حيث يَجْعَلُ من الوهج النوراني فَرَساً صهوتُها الجموحُ لِتَأْخُذَهُ إلى عوالمَ متراميةِ الآفاق.. وأخيراً نرى أَنَّ القصيدةَ لم تكن سِجْنَاً بل كانت عالمَاً واسِعاً من الحرية، أَخَذَتِ الشَّاعِرَ إلى فضاءاتٍ متراميةٍ تَضَافَرَ فيها الوزنُ والمعنى والصُّوَرُ المُبْتَكَرَةُ في رسم لوحةٍ فنيةٍ جمالية عاليةِ المستوى بمفرداتٍ تجمعُ بين السهولةِ والعمقِ، وبينَ الشفافيةِ والبُعْدِ الدَّلالي، وبين الرِّقَّةِ والقوةِ.
وهذا يدفعنا إلى القول.. إن أَجْمَلَ الشِّعْرِ هو الذي يَجْعَلُ من موسيقا الشِّعْرِ جُزْءاً لا يتجزأُ من المعنى.