الجسورُ والذاكرةُ المتخمة بالآلام في ضمير المبدعين

تشرين-راوية زاهر:
في جردةٍ أدبية لحضور الجسور في فضاءات عوالم الأدب شعراً كان أم نثراً، عربياً كان أم عالمياً؛ يستوقفك الكمُّ الهائل من الروايات والقصائد التي تتناول (الجسر) كمعادل موضوعي لقضايا إنسانية مرتبطة بأشخاصٍ، أو حتى شعوب وبلدان.
فالجسرُ طالما حملَ دلالةً رمزيةً ثريةً وعميقة للفكرالإنساني، إذ إنه يربطُ مسافةَ الانفصال والابتعاد بين أمرين ربطاً يبقي على ذاكرة التشظي، وهو التمثيل على بلوغ أمرٍ أو التحوّل من وضعٍ إلى وضع، أو العبور من مرحلةٍ عمرية إلى أخرى، ولهذا كان الجسرُ مفتاحاً سيكولوجياً للتحليل، ويدورُ في فلك المعاني الدالة على وعي الفرد والجماعة، فليست الحياة الإنسانية إلاّ جسوراً تتكاثر.. عبرنا بعضها أوعجزنا، خفناها، أو يئسنا منها..
فكثيراً ما تطالعنا عبارات اللغة من قبيل: جسر التواصل، والأبناء جسر الاستمرار، والأمل جسر البقاء، والحرب جسر الحريات..وجميعها حسب المنطق النظري عند (كارل يونج): النماذج الحبلى بالمعاني والدلالات التي لا تنفد.
وإذا ما قاربنا رواية (حين تركنا الجسر وحيداً) للروائي الراحل «عبد الرحمن منيف» كأحد الأمثلة التي تعلّق الجسر بلفظة في عنوانها، حيث يغدو رمزاً غامضاً لفقدان الأمل وفوات الفرصة، وقد ختمها بقول الرّاوي: «وتأكدتُ أن جميع الرجال يعرفون شيئاً عن الجسر وأنهم ينتظرون ليفعلوا شيئاً».
فالجسر حمل رمزية الآلام البشرية، وكثرت عناوين الكتب واللوحات والمؤلفات والقصائد التي حملت اسم الجسر، فطالعنا الجسر الملعون، والجسر الثلجي، وجسر الهاوية، والجسر التناصي، وجسورقسنطينة، والجسر المعلّق في دير الزور الذي ما برح عالقاً في أذهان أهل المدينة، وقد بُني زمن الاحتلال الفرنسي، وبرزت خصوصيته في قصائد الشعراء، وعادات الأهالي في تمرير العرائس فوقه، أو قربه قبل أن تزف إلى أزواجها.
وعند الوقوف على قصيدة (الجسر )عند الشاعر خليل حاوي والذي كان رمزاً للمعلم الذي ينقل الأجيال الواعدة من التخلف إلى الحضارة، ويحوّل نهر الرماد إلى نهر الحياة المتدفقة برمزيةٍ وحشدٍ للصور التي أتخمت فيها القصيدة، فكثرت فيها التداعيات والتأملات الفكرية والجمالية فقال والشعر فيها ينتمي إلى شعر التفعيلة :
«من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
إلى الشرق الجديد
أضلعي امتدت لهم جسراً
وطيدْ
سوف يمضون وتبقى
صنماً خلّفه الكهّان للرّيح
التي توسعه جلداً وحرقاً
فارغ الكفّ مصلوباً
وحيد.»
وعند المرور على رسام رواية (عابر سرير) للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، رأينا لوحاته وقد اقتصرت على الجسور فقط، وهوسه بجسور قسنطينة، وارتباط تلك الجسور بحدسه وذاكرة المدينة.
وعن لوحة تعود بالذاكرة أيضاً إلى ضفاف نهر السين في فرنسا، حيث رُميّ العشرات من المتظاهرين الجزائريين موثوقي الأطراف ليموتوا غرقاً وتطفو جثثهم وأحذية بعضهم فوق سطح الماء.
يتوّقف الواحد منهم سائلاً :- محمد، أتعرفُ السباحة؟ وعلى الأغلب يجيب المسكين: (لا).. كما لو كان يدفع عنه شبهة، وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر إلى نهر (السّين).. فهذا الجسر يحملُ رمزية الموت والظلم، محفورٌ في الذاكرة الجمعية، مخلد بلوحة رسام.. فالجسور في روايات مستغانمي هي ذاكرة الثورة، والنضال، وقد كثُرت لتكون بصمةً تثير في النفس عشق المكان، وأحياناً لها حضورها (الزمكاني) المرتبط بهوية المكان وزمان الوجع المتنقل إلى ما بعد الثورة الجزائرية.. وقد قالت مستغانمي في إحدى الرّوايات:
«أكتب إليك من مدينة تشبهك، وأصبحتُ أشبهها، مازالت الطيور تعبرُ هذه الجسور على عجلٍ، وأنا أصبحتُ جسراً آخر معلقاً هنا».
ولايسعنا إلا أن نتوقف قليلاً عند رواية (ذاكرة الجسد) لمستغانمي ذاتها ، في ثنائية الحضور والغياب حين أظهرت جماليات المكان متمثلةً بالجسر:
(أقرب جسرٍ لبيتي، ولذاكرتي، أعبرها تلقائياً، وكأنني أرسمها مشياً على الأقدام، بين الدوار المبهم والتذكار، وكأنني أعبرُ حياتي، أجتاز العمرمن طرفٍ لآخر.).
ومازالت الجسور تحتضن الأماني، لنعبر حاضرنا، محتضنين أمسنا، من جهتنا إلى جهة مقابلة تحمل ولادةَ أملٍ جديد.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار