“أشدُّ بياضاً من البياض.. كراكي طوكيو البيضاء”.. متعةُ البساطة!

تشرين- جواد ديوب:
يبدو الشاعر محمد عضيمة، هذا الفلاح الفينيقيُّ القديم (في ديوانه الجديد الصادر عن دار التكوين2022، بـ 230 صفحة) كما لو أنه يكتبُ سيرتَه الذاتية شعراً أو يرسمها بنسمات النثر اللطيفة،إذ نستشعر تأثيرات “الهايكو” واضحةَ وطريفةً ومُحبَّبة، كأنّ على القارئ أن “يرى” ما يقرأ من شذرات عضيمة، ثم يُلصِقُ تلكَ القطع إلى بعضها بعملية مونتاجٍ شعريٍّ ليخرجَ بشريط سينمائي مملوءٍ بألوان الطبيعة اليابانية المذهلة، ومواسم أزهار الكرز، وضباب حانات “الساكيه”.
هكذا مثل طائرة أو زورق ورقيٍّ تتهادى أمامَنا صورُهُ الشعرية ممزوجة بنكهةِ فانتازيا لطيفة، وبلغة تلقائية رقيقة بعيدة عن معجميّةٍ مقعّرة:
“عندما ولدتُ أوّلَ مرة في حياتي
تقول إحدى الدايات اللواتي اجتمعنَ لإخراجي بشكل أنيق
وكما يليق بشاعر جديد،
إنني أطلقتُ سبعَ ضحكاتٍ متقطعة
ظلَّ صداها يتردد سبعة أيام بين زوايا البيت
وما زال الصدى يتردد من نصٍّ إلى نص بين الأصدقاء وبيني
من مطار إلى مطار”
ليسَ ما يلفت في هذه “الشذرة” هو صدى الضحكات تلك، بل قولُهُ “عندما ولدتُ أول مرة في حياتي” كأنّ ما يعيشُه عضيمة في هذه الجزر اليابانية هو ولادةٌ جديدة في كل مرة يستيقظ فيها قبل شعراء اليابان جميعاً، كأنما صارَ واحداً منهم لا بفعلِ التقمّص وفلسفة الفيوضات، بل بفعلِ تدفق نهر الحياة اليومية التي يحياها بشجاعةِ محارب “ساموراي” أخير:
“أستيقظُ فجرَ كل يوم قبل شعراء اليابان جميعاً،
قبل تانيكاوا- شونتارو، وقبل غوزو- بوشيماس
وقبل كورا- روميكو
أملأ جيوبي “كيبيدانغو” (راحة الحلقوم) ودُمى..
وانطلق بها إلى جهات الأرض الأربع
أوزّعها على الأطفال اليتامي
وأعودُ لألعبَ الغُمّيضة مع الشعراء”.
“يحكي” لنا عضيمة ما يشبه يومياته في “جزر الشمس المشرقة” كما لو أنه لا يوجد لمن يعيش هناك إلا خياران ليكمل الطريق: الشعرُ أو الانتحارُ على الطريقة اليابانية المدهشة مثل كل ما هو يابانيّ، لكن عضيمة هذا “الرجلُ الطيبُ البريءُ الضحوكُ مثل الأطفال” يختارُ أنْ يُدغدِغَ فضولنا بشذراته المهضومة بتلقائيتها، والمشغولة بروحه العفوية المرحة، يقول:
“حتى أماتيراسُ (الشمسُ) صارت تناديني باسمي
-يا سي محمد-،
تشرِقُ وتبهرني أشعتها منذ الصباح،
ترافقني كدليل سياحي في حارات طوكيو
وتتابعني من حانةٍ إلى أخرى
خوفاً عليّ من اثنتين:
شقيقِها السكّير “هاياسوسانو” والضياع”.
لا نجدُ في ديوانه هذا تلميحاتٍ أيديولوجيةً ولا صراعات فكرية اعتادَ شعراءُ “القضايا الكبرى” أن يُثخنوا بها جسدَ النص، لأنه لا يطيق القصائدَ “المنبريّة” المملوءة بالغوامض مما يحتاج التأويلَ والإحالات، تلك القصائد التي تسبقها جلاجلها ويتهافت عليها الشعراء من كل حدب وصوب:
“التقيتُ بها في كثير من الأماكن
وكانت في لباسها المنبريّ الأنيق
ولم نتفاهمْ…
–  هي مَنْ؟
وكان الشعراءُ يحومون حولها كالعشاق(…)
–  هي مَن؟
وكنت تجلجلُ في كل خطوة من خطاها
إلى باحةِ المجد والخلود
ولم نتفاهمْ…
–  هي مَن؟
القصائدُ الميتافيزيقية”.
إلا أنه لا يتردد في أن يقول لنا: “إيّاكم والشعر، إنه مخذلة…هذ اللقيطُ، لقيطُ الأزقة والدروب، لقيط الدفاتر والتاريخ والتراث، لقيطٌ لا قولَ له سوى القول، ولا فعلَ له سوى القول…كلمةُ شِعر مجرد كذبة لم يصدّقها أحدٌ سوى الأطفال والسكارى والمهابيل وأولاد الشوارع… وهْمٌ لم يروِّج له سوى بائعات الربيع وتجار الصيف”!
لكنه في قوله هذا كمَنْ يلجأ إلى مباعدةٍ كلامية ليجعلنا نصدّق ما نقرأ عِبرَ حواسنا وليس عقلنا، عِبرَ خلايانا وليس تخيّلنا فقط، لأنه يُتبِعُ كلَّ تحذير بـ”نُتفِ” قصائد ودفقاتٍ مسكوبةٍ في مشاهد سينمائية:
“طوكيو…أيتها المدينةُ التي استبدلتُها بباريس وعشراتِ المدن
التوحيدية المشابهة
وعشرات الأرياف التوحيدية وعشرات الأسماء
ونسجتُ لها خُفّين من قَشٍّ الأرزّ
وقبعةً من قصب النهر
وغسلتُ لها الفجل الأبيض الطويل
وحبات البندورة الحمراء
وسلقتُ لها الفول الأخضر واليابس
وقدّمتُ لها العَرَقَ السوري الأبيضّ المثلّث الأصيلَ
وأوصيتُ بها هياسُسانو، وموموتارو… وجميعَ قبضايات التاريخ الياباني،
ها أنذا أحدّق إلى ضبابكِ وضفادعِه
وأغزّ السيرَ إلى سوق الأسماك”…إلى آخر القصيدة.
إنه كمن يلعب معنا “لعبةَ تغريبٍ” شعرية في كل مرة يكرّر تحذيرنا من “آفة الشعر”، ثم يستدرجنا مثل طيور الكراكي إلى مصيدة لغته وشبكةِ كلماته، مدركاً أن أجمَلَ الشعرِ اللعبُ، وأجملَ الكلامِ المُخاتلُ اللعوبُ:

“كما لو أنه أبو الطيب المتنبي
يصيحُ الديك في الصباح.

“ومن شرّ حاسدٍ إذا حسد”
يقولها ويهمِزُ بغلَه
الطنبرجيُّ الأمير

ثلاث قصائد هايكو
مضادة للطيران
وواحدة للأصدقاء”
ثم كأنه ينتظر (175 صفحة) أو يُمكنُ القول 175 صبراً حتى ينطقَ حزنَهُ ويرينا ما تختزنه الهاوية في روحه:
“من الشام إلى طوكيو
تصل رائحة البارود…”
**
ينادون عليها عضواً عضواً وبالأسماء
–  هي مَنْ؟
يقولون عن الرأس رأس ومن غير مجاز:
هذا هو الرأس،
وعن العنق عنقاً مِن غير مجاز:
هذه هي العنق،
ويقولون عن الأقدام هذه هي الأقدام،
هذه هي القدم اليمنى،
وهذي هي اليسرى، ومن غير مجاز،
–  هي مَن؟
أشلاءُ الجثث المرمية في طرقات الشام”.

لكن عضيمة رقيقٌ حتى في حزنه، يرأف بأرواحنا خوفاً من أن نموت مختنقين بقصيدة، أو تتصدّع قلوبنا بالندب والبكائيات… لهذا يهمس لـ “المهاجرين البسطاء”:
“هذه البلادُ التي تصلونها
أعمقُ من البحار التي قطعتم
وأمواجُها أشدُّ قساوة
(…)
لعلكم الآن في بيوت اللجوءِ
على كأسٍ من الشاي أو النبيذ
لكنكم غارقون عاجلاً أم آجلاً في بحور الحنين
اسألوا صاحبكم الذي هو أنا
عن هذه البحار وأعماقها
اسألوه عن أسماك القرش وعن الحيتان
وكيف يبحث منذ خمسةٍ وثلاثين عاماً
عن شاطئ (…)
اسألوه كيف بدّدَ الأيامَ والخوفَ والحزنَ والخمرَ والنساءَ
والفلوسَ…وا..وا
وأبقى على القدمين فقط
فربما تحرّضانه ذات يوم
على الرجوع”.

أشجارُ كرَزٍ يابانية قصائدُ هذا الديوان، إنها متعةُ البساطة وجمالياتُ الغرابة وأشعة الحبور في بلاد الشمس المشرقة تلك…فـ “شاهدوها” واستمتعوا!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
السيطرة على حريق نشب بأراضي قرية الروضة التابعة لمدينة بانياس وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك يتابع مراكز استلام الأقماح في حمص المقداد أمام الجمعية العامة: الإجراءات القسرية الغربية أداة للضغط والابتزاز السياسي وإرهاب اقتصادي وسيف مسلط على رقاب الشعوب ويجب رفعها رابطة البيان الثقافية تُشرِّع أبوابها في سورية انتهاء مسابقة الأبحاث العلمية الطلابية «SSRC» بمشاركات مميزة محلية وعربية جهوزية تامة لتوفير الخدمات الصحية خلال عطلة عيد الأضحى بيع مخصصات الخبز غداً الجمعة بدلاً من الأحد القادم.. مدير مخابز دمشق: مستمرون بالعمل خلال العيد وفق برنامج مناوبات على هامش مؤتمر الاستثمار في الطاقات المتجددة .. توقيع أربع اتفاقيات مع شركات استثمار  وطنية المياه تجرف سمكة عملاقة ونادرة في ولاية أوريغون الأمريكية تسويق 2700 طن من القمح إلى مراكز الاستلام في السويداء.. والفلاحون يطالبون برفع سقف السحوبات اليومية من المصرف الزراعي