وقع بين يدي لأنه كان محشوراً في مكانٍ أضيق من حجمه ولو كان من الأحياء لكفّ عن التنفّس منذ زمن بعيد أو تساقطت أوراقه الجافة وذرَتْه الرياح! بلى إن أوراقه اصفرّت أكثر وتخلخل بعضُها وانفصل عن البدَن حين تناولتُه من دون حذر من بين الكتب المتراصّة حشْراً على الرّف وسرعان ما قابلني الغلاف كأنه الزيّ الرسمي لدار نشرٍ تتحفّظ، كالرجل المهيب، أن تتخفّف من الملابس وتخرج إلى الناس بملابس المنزل أو البحر أو التنزُّه! وللتوّ رأيت وسمَ “وزارة الثقافة” وعلى غير عادتها في تزويق الأغلفة الذي لا تحتاج إليه لثقتها بالمحتوى الذي تقدمه، كانت صورة الكاتب “أرنست همنغواي” الملونة موضوعة في الزاوية السفلية اليسرى من الغلاف الذي شغلَه من الأعلى خطٌّ عريض وحروف متقنة: “قصص همنغواي. مختارات”. الترجمة “فاضل جتكر” وكعادتي حين أمسك الكتاب، أي كتاب، أقْلِبه كما يفعل صانع الزجاج أو الخزف حين تبرد القطعة، رأيت على الغلاف الأخير: مطبعة وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1984 سعر النسخة 16 ليرة سورية، لبنانية! وتراشقت الأفكار والتداعيات التلقائية في حزمة واحدة: كتاب من الحجم الكبير يقارب 400 صفحة وعام الطباعة والسعر وصفة الوزارة التي اختفى منها “الإرشاد القومي” وكلها تفاصيل مدهشة تشبه بيادق شطرنج من السعادة أن يُعاد ترتيبُها على الرقعة!
وزارة الثقافة صنفت القصص في باقات، كنت أطّلع سريعاً على المحتوى لأكتب بطاقةً في ذهني وأرجئ القراءة: قصص من إسبانيا. قصص من إيطاليا وأوروبا. قصص من أميركا. قصص من أفريقيا، (كانت تشير إلى ترحال الكاتب الفذ في حياته) ووقعَت عيني فجأة على “ثلوج كليمنجارو” وهنا لم أعد أستطيع تنحية الكتاب جانباً لأن “جريجوري بيك” و” آفا غاردنر” و”سوزان هيوارد” حضروا بقوة تحت بصري. تذكرت الفيلم الذي أُنتِج عن هذه القصة القصيرة للكاتب التي وصفها النقاد بالرومانسية وأذهلتني سفوح الجبال المغطاة بالثلج والحوار الذي يدور بين “هاري” البطل المستلقي على سرير قماشي بسبب إصابته بالغرغرينا وزوجته وهما ينتظران طائرة تقلهما إلى مشفى بعيداً عن الثلوج والطيور المحوِّمة تنتظر فريستها المحتملة، أثناء رحلة صيد فيما يُعرف اليوم بتنزانيا جنوب شرق أفريقيا! وقتَها لم أكن أعرف أن القصة نُشرت لأول مرة في مجلة أدبية عام 1936 ولا أن الكاتب نفسه شارك في كتابة سيناريو الفيلم الذي أُنتج عام 1952 ورُشح للكثير من “الأوسكارات” خاصة تصوير المناطق الرحيبة، وقد ألزمني ذلك كلُّه بالقعود مع الكتاب لإعادة قراءة أصل الفيلم والاستمتاع بالحوار وظلال هذا الحوار ومن عجَبٍ أن القارئ نفسه يتغير وليس النصّ المُستعاد وحده هو الذي يتغير، أما وزارة الثقافة فيستديم بهاؤها في كل زمان وكلّ زيٍّ تخرج فيه إلى قرائها!
نهلة سوسو
123 المشاركات