قصائد ملونة في قوارب لا مرافئ لها

تشرين- علي الرّاعي:

لا أعتقد أنّ ثمة نوعاً، يُمكن للعرب أن يُفاخروا بأصالته لديهم غير الشعر؛ إذ تمّت استعارة مختلف أنواع الأدب وحتى الكثير من الفنون البصرية المُعاصرة من الآخرين، وهم قلما تميزوا بغير الشعر.
فالقصة والرواية والمسرح والسينما جميعها تمّت مُقاربتها عربيّاً، وهي من نتاج الآخرين، وحده الشعر تميّز بأصالته العربية حتى إنه – الشعر – تحمّل أن يُنوّع بكل ما سبق ولزمنٍ طويل حتى تجلت تلك الأنواع الإبداعية كأجناسٍ مُستقلة، بمعنى كان الشاعرُ في زمن ما: روائياً، «يسرد» الحكاية أو القصة شعراً سواء كانت القصيدة ملحمية – وهي نادرة في العالم العربي – أو في القصيدة الغنائية وهي الغالبة، وكان الشاعرُ فناناً تشكيلياً أيضاً عندما رسم بالكلمات أجمل المشاهد خلال وقوفه على أطلال الحبيبة التي ترك أهلها الديار في الصحارى العربية، أو خلال وصفه للكثير من المعارك والغزوات وحتى الأماكن والقصور والمجالس.
قوارب لا مرافء لها
والشعر في العالم العربي أخيراً، كان دائماً نوعاً أدبياً لا تصل قواربه إلى مرافئها الأخيرة، بمعنى لا يصل إلى الكهولة التي تعني الاقتراب من النهاية، فهو بعد كلِّ تقليدية كان يجدُ انعطافةً ما، في بنية القصيدة أو في شكلها، يُجددُ من خلالها شبابه، بدأ ذلك منذ الزمن البعيد قبل الإسلام، عندما توفر للشاعر ما أطلق عليه النّقاد فيما بعد بالجوازات أو الضرورات الشعرية التي توّسع من قيود القافية والوزن للشاعر حتى إنّ ثمة من عدّها – الجوازات والضرورات – تطويراً ونماءً في اللغة حينما عدّوا أنه «يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره»، وبعدها جاء أبو النواس في العصر العباسي لينسف تقليداً استمرّ قروناً، وهو تقليد الوقوف على الأطلال، أو ما عُرف بالمقدمات الطللية أياً يكن موضوع القصيدة وأغراضها، وحتى بدايات القرن العشرين وظهور قصيدة التفعيلة التي نسفت هي الأخرى الإيقاع وخلخلت العروض كما كان موزناً سابقاً، وهي التي مهدت لظهور الشعر الحر، أو ما عُرف بـ«قصيدة النثر»، التي نسفت العروض منذ أول تفعيلة.
الأبواب المفتوحة
قصيدة النثر التي فتحت كلَّ الأبواب للقصيدة العربية لأن تنوّع في أشكالها وبنيتها، ومع الألفية الثالثة ووسائل الإعلام غير التقليدية – التواصل الاجتماعي- كان ظهور الأدب الوجيز الذي شكّل إطاراً لعشرات الأنواع الإبداعية كالقصة القصيرة جداً، والقصيدة الومضة، والشذرة، والتوقيعة، ثم تلك النصوص التي استعارت الأشكال اليابانية، أو قاربتها في الشكل وقليلاً في البنية كالهايكو، والهابيون، والتانكا.. والتي جميعها تتماسك مع بعضها بما أشار إليه الناقد السوري ياسر سكيف: « هاجسُ القصّ, أو روحهُ» التي هي سِمةٌ لكلّ عمل فنيّ، أو أدبيّ.. فالرغبة بالإخبار هي الدافع الجوهري لأي عمل إبداعي، وقد تكون الغاية إخبار الذات فحسب.. هذه الحكاية التي تمتلئ بأمرين آخرين غير الحكائية التي أشار إليها سكيف، وهي الشعرية والمشهدية العاليتين، وهما اللتان قامتا بتوسيع الحيز الضيّق للنص الذي لا يتعدى المفردات القليلة، فقد أتاح المجاز والشعر والمشهد لأن يُقدم الشاعر ومن خلال نص لا يتجاوز أحياناً العشر كلمات ما تعجز عنه رواية بمئات الصفحات معتمداً على طاقة الكلمة من الداخل وعلى إيحاء المشهد بما يُقدمه من أثر خارجي ونفسي من الداخل، وعلى البلاغة المُضادة كالحذف والإضمار والإيحاء والكثير من الرمز وغيرها.
تعويذةٌ للأرق
مُناسبة هذا الحديث مجموعة « تعويذة للأرق» للأديب حسّان زموري التي نوّع فيها بنصوص تنتمي إلى الأدب الوجيز مُقارباً فيها: الهايكو، والهابيون والتانكا..فهي نصوص بدا فيها الكاتب زموري مُتمكناً من أدواته لإنتاج نصوص مُدهشة لا يبتعدُ فيها عن جذورها العربية أو عن أشكال شعرية في المشهد الأدبي العربي رغم إيغاله في التجريب وتقديم نصوص تلبس أزياء «باشو» وغيره، ولاسيما من خلال المتواليات التي اشتغل على تنويعاتها بالكثير من الحرفية، كالمتواليات التي عُرفت بالتوليدات بمعنى النصوص التي تتناسل من بعضها، أي الاشتغال على الفكرة ذاتها بأكثر من صياغة وبناء تعبيري مثل النصوص التي كانت شواغلها: الدالية، لعبة الحجلة، سماء مُرصعة بالنجوم، وغيرها.
نصوص الكاتب حسّان زموري تحتاج كثيراً للوقوف بصددها بأكثر من قراءة، وحسبي هنا أن أشير لهذا النص الذي يُكثف جودة ما قدمه الكاتب، ويشهد على ما نقول:
«ليلةٌ شتوية –
العائلة الفقيرة تعيشُ
دفء الحكايات»

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار