بشار الحلبي… حرفيٌّ يُحيي العود الدمشقي الأوّل
تشرين-لبنى شاكر:
حينَ صنعَ بشار الحلبي «دمشق 1959» عوده الأوّل من بقايا الأخشاب في ورشة أبيه، كان عمره ثلاثة عشر عاماً، يومها بدت الآلة الصغيرة تحفةً أكثر منها آلةً للعزف، لكنه في الخمسين عاماً اللاحقة، تمكّن من إحياء العود الدمشقي الأصلي بقياساته وقالبه وصوته، تماماً كما صُنِعَ على يد الحرفي عبده نحات 1879، والذي يرجع إليه تصنيع العود في سورية، مُتكئاً على خبرةٍ اكتسبتها عائلته عبر مئة عام، في تصنيع العود وصيانة الآلات الموسيقية، ولاسيما والده جودت الحلبي الذي كان هاوياً لأغاني السيدة أم كلثوم، فتحيَّن فرصة زيارتها إلى بيروت عام 1955، وأهداها عوداً تفنّن في صنعه من قصب السلل، نقشَ على زنده عبارة «لا يُعرف المرء في عصره» لايزال محفوظاً حتى اليوم في متحفها في القاهرة، كما يحتفظ بشار ببطاقةٍ كتبتها بخط يدها، تشكر فيها والده على الهدية البديعة على حد تعبيرها.
يعتمد صانع العود المُحترف بدايةً على الخشب الناشف، وهو ما لا يُدرك قيمته عدد من الصنّاع الجدد، يقول الحلبي في حديثٍ إلى «تشرين»: «نستخدم الأخشاب المحلية من غوطة دمشق الشرقية، كخشب المشمش والجوز والسرو، والكينا أحياناً، أما لصدر العود فيستخدم خشب الشوح حصراً، وتكمن الصعوبة اليوم في الحصول على الخشب الناشف، إذ يجب أن يتم تنشيفه عشر سنوات وأكثر، وليس يوماً أو يومين كما يظن البعض، وفي هذه المسألة لا نستند إلى رأي التاجر الذي يبيعنا الأخشاب، بل نُبقيها عندنا عدة سنوات قبل بدء العمل عليها، وكل هذا سينعكس على جودة صوت العود».
التصنيع الجيد والقائم على معرفة حقيقية بالآلة، سيظهر بطبيعة الحال على المدى الطويل للعزف عليها، يُضيف الحلبي: «الحرفة تحتاج وقتاً وصبراً والتزاماً حتى يفهم الصانع التفاصيل التي نحاول الحفاظ عليها، وعلى هذا فالتساهل في موضوع الخشب، سيظهر بوضوحٍ عند العازفين والموسيقيين، لأن الصوت الجميل سيختفي أو سيصبح أقل جودة، وفي المقابل العكس هو ما يمكن كشفه بسهولة أيضاً حين يكون الصانع مُحترِفاً وخبيراً، يُتقن التمييز بين أنواع الأخشاب وما يلزم كلٍّ منها لتكون النتيجة مضمونة ودائمة».
إحياء صناعة العود الدمشقي، لم يكن سهلاً أبداً، احتاج بحثاً ودراسةً وجهداً، وربما لم يكن ليتحقق لولا المِران الذي يمتلكه الحلبي مع الآلة، بحكم عمله عليها منذ الصغر، لذلك يصعب على كثيرٍ من الحرفيين تصنيع العود بهيئته الأولى في سورية كما فعل، يقول الحرفي: «التعديلات التي قمتُ بها حتى وصلت للعود الدمشقي القديم، وعمره نحو مئة وأربعين عاماً، احتاجت مني سنوات، إلى أن صنعتُ قياساته الصحيحة وقالبه الفني المُعجز في رأيي، ومع توافر الخشب المناسب، وجاء الصوت بالمواصفات المطلوبة».
يتميّز العود الدمشقي كما يشرح الحلبي بقالبٍ يسمح بارتداد الصوت، إضافةً إلى قياساتٍ مُحددة لطولي الوتر والزند، وكلها مدروسة لتًعطي صوتاً طربياً لا يشبه غيره، ناهيك بالدقة في الصناعة، والتي لا تعني الشكل فقط إنما الأداء أيضاً، يقول شارحاً المزيد عن القالب: «ظهرُالعود مصممٌ بطريقة إبداعية، يدوية بحت، لذلك لا يمكن تصنيعه آلياً أو على مبدأ خط إنتاج، يجب أن تكون الأيدي حاضرة، كذلك لا بدّ من استخدام لواصق طبيعية من الغراء الأحمر، بعيداً عن الغراء الأجنبي المطاطي، لأنه يمتص الصوت ويسحبه عوضاً عن ارتداده، وتالياً النتيجة لن تكون سليمة».
يُؤكد الحلبي أن الحفاظ على الحرفة، يكون تحديداً في استمرارية المُمارسة، وهو ما تحقق بانتقالها إلى ولديه خالد وجودت اللذين نقلاها بدورهما إلى كندا وألمانيا، في ورشاتٍ مُتخصصة وتبعاً للطريقة ذاتها، يقول: «في أوروبا عموماً، وفي عدة دول يطلبون العود المُستحدث، على أساس أنه أكثر تطوراً، لكنني من خلال زيارتي إلى كندا وألمانيا، قدمتُ لهم العود الدمشقي التراثي، بمميزاته وصوته، وهو يجد اهتماماً كبيراً ورغبةً في التعرّف والاستماع».