في عالمٍ من الأحلام علي محمد حمدان يُعاين قيامةَ المجانين
تشرين- راوية زاهر:
(أشباح الحب) مجموعة قصص قصيرة من تأليف الكاتب والروائي علي محمد حمدان صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، ٢٠٢٢م.. كتاب ضمّ بين دفتيه اثنتي عشرة قصة متراوحة الحجم بين القصيرة والطّويلة.
في العنوان
(أشباح الحبّ).. عنوان تقليدي مأخوذ من إحدى قصص الكتاب، والأشباح عالم ماورائي قائم بذاته، توّكأ الكتاب على عصا هذه الألفاظ وشبيهاتها في كثير من قصص المجموعة، حتى كاد أن يشتبه علينا مكان هذه الحكايات ويحيلنا إلى عالم الجنيات والمقابر والظواهر الخفية المدهشة.. ولكن العنوان حمل أشباحاً من نوع آخر، أشباح الحب وماقد يحمله هذا الشعور من إرهاصات وتحوّلات تقلب معايير الحكايات، وتزيح عتمة الأرواح، وقد يحملنا للصلاة على راحة أنفس من عالم المجانين.
وفي إسقاط مباشرعلى أحداث واقعية يستنبط الكاتب حَكايا التراث، في إشارة إلى تلك الثقافة العالية التي يكتنزها في حنايا ذاكرته، مابين شهرزاد الحكاية وأسطورة حديقة بابل المعلقة.. تجوّلنا في عوالم غريبة عجيبة، لتُفتح لنا أبواب لعالم المغامرة القائمة على خطيئة آدم ووسوسة حواء له بما يخص شجرة المعرفة المحرمة، وإسقاطها بشكلٍ مباشر على غرفة في قصرٍ منيف أهداه صديق لصديقه بمناسبة زواجه ليقيم فيه شهر العسل، كان مركوناً فوق جزيرة وقد ترك له لغزاً وحرّم عليه وعلى زوجته الاقتراب منه، لكن الزوجة أبت إلا أن تنغص الفرحة ويأخذها الفضول لمعرفة ماتحتويه تلك الغرفة وسرّ قفلها الملكي المخيف، لتكون النتيجة؛ دهاليز، وفوضى وشبه نهاية مخيفة لرهان كان قد عقده صديق حاقد على فضول المرأة وتأثيرها على لبّ الرجال.. وتخرج شهرزاد من صفحات كتاب ألف ليلة لتكون الحكاية وبطلة المشهد، ومن خلال الكتاب ذاته تتكشف خيوط الجريمة بأبطالها الحقيقيين والوهميين، وتتوزّع الحكايات بكل ألق وتشويق، بين قصص الغجر وجميلاتهم، ومشاهد السينما المتنقلة، بسهم ناريّ يخترق عقل القارئ، والنهاية الخارجة عن المتوقع لعيني منصور اللتين تتجولان في الأفق بحثاً عن غجرية الفيلم التي سرقت لبّه وأكلت عقله.
وفي مكانٍ آخر يتحوّل حلم مكتبة في عيني شاب يافع كان قد عزم مع صديقه على إنشائها من أجل أبناء القرية إلى حلم من نوع آخر يتعلق بالمرأة وفك شيفرة جاذبيتها وشغفه بها الناجم عن مشاهدته مشهداً حميمياً في غفلة من أمره كان قد جمع مدير مدرسته ومستخدمته.. وأما عن النهاية المباغتة في قصة (ثلاث صور)، فتركت لنا باب التأويل مفتوحاً على مصراعيه، لمصوٍر امتهن التصوير في بيئات خاصة، وأوساط غنية يلفها النفاق والبهرجة، فيجمّل هذه ويلون سواد تلك، ويعيد الشباب إلى نسوة متصابيات، ويقتص مشاهد لرجال تأخذهم النشوة في حضرة المجون وقصص الخيانة والعربدة، لتشي نهاية القصة بالفجيعة وموت المصور مع غرائبه وأسراره.
وقد كانت المجموعة غنية بقضايا المجتمع والجشع والظلم، وقصص البخلاء و بعض الأساطير الشبيهة بكهوف علي بابا و«الأربعين حرامي».
عن اللغة
جاءت اللغة قوية جزلة، بالغة الحضور، والعلو، فخمة.
فمعجمه اللغوي متنوّع جداً، يحمل معاني ودلالات تخدم المراد ، فقد شاهدنا النزعة الفلسفية، والميل القوي إلى عالم الخيال والأسطورة، موظفاً إياه بكل براعة وإجادة. كما استخدم المجاز بشكلٍ لافت والتشبيه بشكل خاص (عجوز تشبه أنثى نسر صلعاء، سوف تأكلني الشيخوخة كما تأكل الديدان الجثة).
ولم يبخل علينا بحضور الكناية التي أغنت السّرد وجمّلته (فوق رؤوسنا يحلّق الموت) كناية عن الخوف، أضف لبلاغته واستخدامه الاستعارة (هزمه التعب، استولى على العجوز النعاس) استعارة مكنية .
وحضر اللون، كلون الذئاب الرمادية، والثلج الأبيض، والدم الأحمر القاني، وكذلك الرمز : كالغراب، والبومة البيضاء.
وكانت شخوص هذه الحكايات متنوعة بتنوع السرد الذي يعود إلى أحداث كل نص.. وأما عن التقنيات السردية فقد استخدم التضمين بشكل بارع وكثيف، وخاصة في قصة قيامة المجانين، إذ تضمنت القصة الكثير من الأقوال المأثورة وآيات قرآنية، وتفاصيل تخص مجانين منذ عصور خلت وأقوالهم، فمنهم الشعراء العذريون المجانين كقيس بن الملوح، والشاعرات المجنونات أمثال: (ريحانة الأبلية) والأطباء والفلاسفة والملّحنون عرباً وإغريقاً وأوروبيين ويونانيين.. نقل لنا الكاتب في هذه القصة أخباراً عن كل هؤلاء بأسلوب شائق، مترابط السبك كوثيقة عن أعداد المجانين وحكمتهم.. بينما حضر التناص من خلال العودة إلى ذلك التراث وقصصه سواء الاجتماعي أو الديني، وقصص عباس بن فرناس وأدب الرحلات كرحلة ابن فضلان وابن بطوطة.
أمّاالحوار فكان حاضراً وبكامل الجمال والرشاقة، مختصراً هادفاً؛ وهذا أنموذج بسيط إذ : (سأل الشيخ بهلولاً عندما شاهده يركب عصاه كفرس كُميت:
هل جننتَ يا أبا وهب؟
قال: أما عن غفلة فنعم، وأما عن المعرفة فلا.
قال له: كيف حالك مع المولى؟
قال: ماجفوته مذ عرفته
قال: ومذ كم عرفته؟
قال مذ جعل اسمي في المجانين!)
لتنتهي المجموعة مع الأسطورة، أسطورة حكاية الأشواك وولادتها وتكاثرها في أصقاع الأرض، يتقطّر منها دم العبيد الذين بنوا حديقة بابل لتكون هدية من النمرود للملكة سميراميس، فتتحوّل نتيجة حزن الملكة سميراميس على العبيد المعذبين
من عجيبة الزمان إلى حديقة ترفل بالدم والأشواك.