محمد أحمد معلّا.. في سرده لعالمٍ من الأشباح وقيامةِ الجثث

تشرين- راوية زاهر:
«جثتان لميت» رواية للدكتور محمد أحمد معلا، وهي صادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وللكاتب العديد من المؤلفات القصصية والروائية، أضف لمسرحية «حاروت كاهن بابل».. والرواية توزعت على ثلاثمئة وستين صفحةً، بأحد عشر باباً مترابط السبك والحدث، وتنقل لنا أحداثاً بمقاطع روائية عالية الأداء، فارهة اللغة.
فـ«جثتان لميت» عنوان يثير قشعريرة في جسد الصمت، أي ميّت هذا الذي ينال من الوجود نصيب الحصول على جثتين؟؟ وفي عالم الجثث هذا، أي ارتعاش جسدي يمكن أن يحدثه؟ وما الأحداث التي قد توصلنا لاستنتاج السبب المباشر والملابسات الدرامية حول هذه القضية المثارة بهذا العنوان العريض المخيف، والغارق في عالم الميثولوجيا والماورائيات.. ففي هذا العمل الروائي المميز تسجيل لمجموعة صور تأثرت بها مخيلة الكاتب، في محاولة لبسط عاطفة اختلجت في صدره ليعبر عنها بالكلام، ويصل بذلك إلى أذهان القراء.
وقد تنوعت شخصيات الرواية بين رئيسة وثانوية، معوقة ومعينة، وبعضها ثابتة وأخرى نامية.. الرئيسة: تمثلت بنمير الشاب طالب الطب، شخصية محورية ومتقلبة، بدت في بداية الفصل الأول للرواية منفصمة، نزقة، خائفة، يعلوها التناقض والتوتر الحاد.. ومن خلال سير الأحداث استطعنا أن نبرر له هذه الشخصية الملتبسة وذلك من خلال علاقته بجثة التقى بها في أحد مختبرات التشريح الخاصة بجامعته، وجزم أنها لوالده، فسرقها، وراح يمارس انفصامه لإحيائها.. ثم لينصلح حاله، وتتأرجح الأحداث، بعد اكتشافه الحقيقة، أوعلى الأقل اقترابه منها.. أما الشخصية الثانية، فكانت لـ«غصون بن شما»، شحاذ متصوف، موسوعة في تقلبات الحياة وأخبارها، لطيف، طيّب، ذو عقل راجح، كارُهُ: الشحاذة المهنة التي يعتز بها وقد ورثها عن أبيه وإخوانه، وقد كانت لقدميه ذاكرة تحفظ الطرقات، قمّات الجبال، وأقاصي الوديان وعلوم المدن.. يبعث السرور في النفس، وفي مفارقة خاصة كان قد حصل على شهادة السرتفيكا التي جعلته يمارس مهنة التعليم وهلةً، ولكن مالبث أن عاد لكاره، فقرش الشحادة دافئ كما وصفه.
بدأت فصول الرواية مع مشهد وقوفه على باب نمير الحارس لجثة أبيه، وذلك التعذيب النفسي الذي مُني به بسببه، لتنعقد بينهما صداقة عندما سايره في محاولة لإحياء جثة والده.. أما الشخصيات المتبقية فمنها، صفاء: الصبية الجميلة؛ أم نمير وتضحيتها في سبيل أبنائها ومحاولتها المتكررة تخليص ابنها من عبء جثة أبيه من خلال أحداث حفلت بها تفاصيل السرد الروائي للأحداث، وقد تزوجت وهاجرت إلى أمريكا بعد قصة شائقة جداً، وتخلصها أيضاً من عبء زوجها الهارب، ونبش جثته التي توكّل ابنها بتبديل الجثة المسربة من المخبر بذلك الصندوق لجثة والده المفترضة، ليحصل على ثروة هائلة كانت في مكان الجثة التي قدمت إليهم بصندوق مغلق محظور الفتح، ولينطلي الأمر على أمه وترحل.
وهناك هزار حبيبة نمير، الحقيقة الوحيدة البعيدة عن عالم الموت والجثث والتي أعادت له توازنه، وهي شخصية مُعيْنة.. ووهب: صديق غصون الشحاذ.. وله قصص متنوعة، مغترب عاد ليموت في بلاده، وهو جد الدكتور ناصر زوج صفاء.، له قصة حب مع شبح ميت، اسمها نجوى.. أما أخت نمير وأخت هزار وحفارو القبور وزوجة أبي نمير التي حملت آخر جثة ومن خلالها تكشفت الحقائق؛ فكلها شخصيات ثانوية، كانت شبيهة بديكور لا أكثر.
بينما انحصرت الأمكنة بقرية وهب، وبيت الجبل الذي سارت فيه جلّ الأحداث، وفيه وجد قبران فاغرا الفم لتلقف أي جثة، فجثة المختبر التي صارت جمجمتها بعد نبش القبر المتكرر كرة تتقاذفها أقدام الوحوش، وجثة الأب القادمة من الكونغو، وجثة غصون الذي واراها نمير ثرى أحد هذين القبرين المشرعين لاستقبال أي قادم، وأما الزمن فممتد على مدى ثلاثين سنة.
وقد بدا السرد الروائي محيطاً وممسكاً بتلابيب الأحداث، إذ نقلها الراوي من خلال استخدامه الفعل الماضي.. بينما الحوار كان طويلاً، ومتنوعاً، وقد ساعد دائماً في انجلاء الصور وتجليها، وأحياناً كان الحوار أشبه بحوار الطرشان، كذاك الذي دار بين نمير والشحاذ غصون، حكى فيها غصون سيرة حياته والعلاقات الأسرية وخبث الأنثى الذي مارسته أمه الدميمة على أبيه ليجدها أفضل وأجمل نساء الكون، مقابل نمير الصامت الأشبه بقبر ولم ينبس ببنت شفة.. ومن أجمل الصور المتحركة التي رافقت الحدث، تلك الرقصة التي ميّزت غصون على أغنية «هيك مشق الزعرورة» لتبعث عاطفة النشوة والفرح على جميع الحاضرين.

استخدم الكاتب أسلوب السخرية تارةً لإيصال أفكار معينة لايمكن أن تقال مباشرة، كذلك استخدم تقنية «التناص» بشدة.. إذ بدت مع محاولة إحياء الموتى بالعودة إلى قصص التراث والميثولوجيا الدينية كضرب الميت بعجز بقرة صفراء كما فعل سيدنا موسى في إحياء ميت بني اسرائيل.. وثانيها كان من خلال إحضار غبار من مكان حافر فرس سيدنا الخضر حتى يلقيها في فم الجثة فتح.. وكذلك العودة إلى قصة الطير الأبابيل، أمام تلك الرهبة التي شعر بها غصون أثناء توجهه بحثاً عن نمير المنفصم، فاللغة كانت قوية، مترابطة ومتماسكة، عبرت عن الثقافة العالية التي يمتلكها الكاتب، وقد عالجت الرواية إضافة إلى قضية الجثة الحاضرة الغائبة قضايا اجتماعية ببعدها الأخلاقي والديني، والظلم الذي قد ينال الناس والأصناف البشرية الأدنى في عرف البشر الذين يعانون النفاق والتفوق الاجتماعي، ليثبت غصون الشحاذ أنه رمز الشهامة والكرم، العاطي والواهب وعفيف النفس رغم مايشوب مهنته من كدر.
وبالنسبة للخاتمة؛ فقد بدت للوهلة الأولى مرضية، إذ تصالح نمير وهزار، بعد أن نفر من مصاحبة الجثث، وشعر بعبثية القدر، والتراجيدية الهزلية، وكذلك تصالح نمير وغصون، وعادت تركة غصون التي سلبها أقاربه ، وقرر غصون الزواج من أرملة أبي نمير، وقد غمرته السعادة ورقص لها على وقع «هيك مشق الزعرورة»، ليلقب نفسه بصهر قارة إفريقيا بشيءمن الهزل، لأنها كانت سوداء كما كانت أمه تخبر زوجها أن هذا الولد غصون يساوي قبيلةً.. وقرر في اليوم التالي تثبيت زواجه، لكن عجلات القدر كانت أسرع فرحل كطائرٍ حر، رحل غصون، كما رحل صديقه وهب على وقع عشق أنثى، ليكون القبر الذي زاره يوماً هو مسكنه الأبدي، بيتمه، وطيب معشره، ولم يسعفه أن صاهر قارة بأكملها أو يساوي قبيلة بحالها أن يحضر جنازته أكثر من عشرة أشخاصٍ.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
1092طالباً بالثانوية العامة استفادوا من طلبات الاعتراض على نتائجهم قيمتها ١٥٠ مليون ليرة.. أين ذهبت مولدة كهرباء بلدة «كفربهم».. ولماذا وضعت طي الكتمان رغم تحويل ملفها إلى الرقابة الداخلية؟ الديمقراطيون الأميركيون يسابقون الزمن لتجنب الفوضى.. الطريق لايزال وعراً وهاريس أفضل الحلول المُرّة.. كل السيناريوهات واردة ودعم «إسرائيل» الثابت الوحيد هل هي مصادفة أم أعمال مخطط لها بدقة «عائلة سيمبسون».. توقع مثير للجدل بشأن مستقبل هاريس تطوير روبوتات لإيصال الأدوية عبر التسلل إلى دفاعات الجسم المكتبة الأهلية في قرية الجروية.. منارة ثقافية في ريف طرطوس بمبادرة أهلية الأسئلة تدور.. بين الدعم السلعي والدعم النقدي هل تفقد زراعة القمح الإستراتيجية مكانتها؟ نقص «اليود» في الجسم ينطوي على مخاطر كبيرة يُخرِج منظومة التحكيم المحلي من مصيدة المماطلة الشكلية ويفعِّل دور النظام القضائي الخاص.. التحكيم التجاري الدولي وسيلة للاندماج في الاقتصاد العالمي التطبيق بداية العام القادم.. قرار بتشغيل خريجي كليات ومعاهد السياحة في المنشآت السياحية