أمين الدريوسي
خلافاً لكل الخطاب الإعلامي الذي سبق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والذي حمّل موسكو مسؤولية التصعيد، اعتبر عدد من الأوساط الإعلامية أن روسيا محقة في مخاوفها تجاه تمدد حلف «ناتو» إلى حدودها.
وسائل إعلام غربية تقول: «أثبت الدعم الغربي لثورة ميدان 2014 ضد الحكومة الأوكرانية الموالية لروسيا أن مخاوفه كانت مبررة، حيث أدى ضم روسيا إلى شبه جزيرة القرم ودعمها لدونباس بدوره إلى إعطاء الغرب شعوراً بأن التهديد الروسي حقيقي وأن أوكرانيا يجب أن تسلح، الأمر الذي أقنع روسيا إلى حد ما أكثر مما هددها الغرب»، معتبرة أن «هذه الحرب، من خلال أوكرانيا، حرب بين الغرب وروسيا يمكن أن تؤدي إلى مواجهة مباشرة من خلال التصعيد غير المنضبط».
لم يكن اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914 جريمة فحسب، بل مأساة، ولم يكن أي زعيم أوروبي مجنوناً، ولم يكن أحد يريد حرباً عالمية تقتل عشرين مليون شخص، لكنهم معاً بدؤوها، وفي وقت معاهدة فرساي لم يكن أحد يريد حرباً عالمية أخرى من شأنها أن تقتل ستين مليون شخص، لكنهم جميعاً، ما زالوا يسلحون الآلة الجهنمية التي كانت ستؤدي إليها.
في وقت مبكر يعود إلى 7 أيلول 1914، أي بعد شهر واحد فقط من اندلاع الحرب، كتب رئيس الأركان العامة الألماني الذي ناشد قادة بلده بشدة بأن تهاجم قبل أن تتعرض للهجوم: «لدي انطباع بأنني مسؤول عن كل هذه الفظائع ومع ذلك لم أستطع التصرف بطريقة أخرى»، «لا أستطيع أن أفعل غير ذلك».
لقد قيل كل شيء عن المتاريس التي تؤدي إلى الحرب، العتاد هو أولاً وقبل كل شيء ما يبدأ به كل شعب بأن ينسب للآخر دوافعه الخفية، وتصاميمه غير المعترف بها، والمشاعر التي يمر بها هو نفسه تجاهها، هذا ما يفعله الغرب اليوم تجاه روسيا وهذا ما تفعله روسيا تجاه الغرب، لقد أقنع الغرب نفسه بأنه إذا فازت روسيا في أوكرانيا فلن تكون هناك حدود لإرادتها في الهيمنة، على العكس من ذلك أقنعت روسيا نفسها بأنه إذا دفع الغرب أوكرانيا إلى معسكرها فسيكون الغرب هو الذي لم يعد قادراً على احتواء طموحها للهيمنة.
من هذا المنطلق فإن توسيع «ناتو» ليشمل كل دول الشرق السابقة حتى دول البلطيق، عن طريق تحويل الحلف الأطلسي إلى تحالف مناهض لروسيا، ودفع حدود الاتحاد الأوروبي للوراء إلى حدود روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أعاد إيقاظ الروس للشعور بالحصار الذي كان أصل العديد من الحروب الأوروبية. لقد تبين أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية المبرمة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا في 10 تشرين الثاني 2021، والتي أبرمت تحالفاً من البلدين موجهاً صراحةً ضد روسيا ووعدت بانضمام أوكرانيا إلى «ناتو»، أكملت إقناع روسيا بأنها اضطرت للهجوم قبل أن يتمكن الخصم المفترض من فعل ذلك، هذا هو درس 1914 بكل نقاوته المخيفة.
هذه الحرب، من خلال أوكرانيا، حرب بين الغرب وروسيا يمكن أن تؤدي إلى مواجهة مباشرة من خلال التصعيد غير المنضبط، لطالما كانت الحرب بمنزلة تحرير لكل ما هو موجود في الطبيعة البشرية من الوحشية والغريزة القاتلة، وصعود إلى التطرف الذي ينتهي دائماً بإبعاد المقاتلين حيث لم يعتقد تشرشل ولا روزفلت أنهما سيأمران يوماً ما بقصف ضخم للمدن الألمانية لكسر معنويات السكان، ولا ترومان توقع أنه سينتهي به في عام 1945 باللجوء إلى القنبلة الذرية لكسر المقاومة اليابانية، والرئيس الأمريكي جون كينيدي لم يعتقد أن إرسال بضع مئات من المستشارين العسكريين إلى فيتنام في عام 1961 جعل أمريكا تلتزم بأكثر من نصف مليون رجل هناك، وستقوم بقصف هائل من النابالم هناك، وستكون مسؤولة عن مذبحة قرى بأكملها.
إذا لم تؤد الحرب الباردة إلى حرب عالمية ثالثة فذلك لأنه لم يسعَ أحد من أبطالها قطّ إلى محاصرة الآخر. في أخطر الأزمات كان كلّ منهما يتأكّد من أنّ الآخر لديه مخرج. اليوم، على العكس من ذلك، تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها محاصرة روسيا.