رقميات السقوط

الأدب هو ابن بيئته، وعصره بالدرجة الأولى، والاختلاف بين كاتب وآخر ينتميان إلى المرحلة الزمنية والمكانية ذاتها ، محكوم بالخلفية الثقافية- غير التقليدية- التي ينتمي كلّ منهما إليها ويراها جديرة بأن تكون منطلقاً للتجديد ليس في مجال الإبداع وحسب، وإنما على صعيد البنية الاجتماعية التي ينتمي إليها أيضاً، وبناء على ما سبق نستطيع الجزم بأن ثقافة الكاتب ما هي سوى نتاج أيديولوجيا آمن بها، وعدّها نبراساً لفكره، ليتم لاحقاً إنتاجها من جديد تحت أنساق إبداعية تحتمي بجماليات الفن لتخفي خطاب الإيديولوجيا الحاد في فجاجته المباشرة، ومن خلال تجربتي الطويلة في القراءة، لم يصادفني عمل أدبي عظيم خارج عن هذه القاعدة، وهذا يبطل براءة نظرية الفن للفن بشكل كلي، باعتبارها دعوة ديماغوجية لتحييد الإيديولوجيات المضادة عن طريقها، ليتسنى لها نشر ثقافة تخدم المصالح الاقتصادية لأسيادها المضمرين تحت عناوين فضفاضة، وعريضة، لكن في الوقت ذاته لا يمكن قراءتها بالشكل الصحيح بالعين المجردة، وخاصة إذا كان العنوان يحمل مفردات التمويل خدمة للفن والأدب، وهذا ما يجيز الإفصاح عن أن الكثير من المنجزات الأدبية ذات الشهرة العالية، في العصر الحاضر، أي في القرن الجديد، قد وضعت نفسها في خدمة الممول المستور، وتم استبدال نظرية الفن للفن، سيئة السمعة في القاموس النقدي السابق، بنظرية من رحمها، قوامها الإيمان بسقوط الإيديولوجيات، والتي يتبناها معظم الأدباء في دول الهامش الاقتصادي، إرضاءً لمزاج الممول بالدرجة الأولى، وتهرباً من دورهم في أن يكونوا مؤسسين لثقافة نهضوية تحرر مجتمعاتهم من الاستبداد الذي يقع عليهم من قبل نفايات العولمة، وثقافتها الداعية إلى الخضوع، والسير في دروب الاستهلاك بأقصى طاقاتهم للحاق بالأمم المتطورة، متناسين- والإشارة إلى أصحاب الأقلام الأدبية المروجين لنهاية التاريخ بحسب ما جاء به ” فوكو ياما”- بأن تلك الدعوات لم تخرج عن نطاق الإيديولوجيا التي تحاول تسييد المال برؤية أحادية الجانب، للسيطرة على المدونة الثقافية شعوباً ومبدعين، وجعلهم يسيرون في ركابها معصوبي الأعين، يصفقون لعمائهم، بقلوب راضية، وعقول تلهث خلف المواقع الإلكترونية لنيل الشهرة المفرغة من مضمونها، والحصول على مكافأة البطالة الاجتماعية، والإنتاجية، والإنسانية، بأسهل السبل: إنه عالم التفاهة بحق، هذا العالم الذي كدّس في بنوكه الثروات الطائلة، وبدلاً من أن يوظفها في مجال إنتاج السلع التي تقي الإنسان من شر الجوع، والمرض، وتحفظ حريته، وكرامته وشيخوخته، ومستقبل أبنائه، سخرها للتكاثر في رحم الاستثمار الرقمي مجهول النسب، لكن نتائجه الثقافية تفضح هويته، وتفضح عزلتنا القسرية أمام ذواتنا، وأمام مستقبلنا، ولعجزنا عن الفعل، نحيل أسباب الكارثة إلى سقوط الإيديولوجيات!!..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار