عالم ما بعد انتهاء الحرب بين روسيا أوكرانيا ، لن يشبه العالم الذي أجبر سليل الاتحاد السوفييتي على فتح جبهة ساخنة مع جمهورية كان شعبها في السابق حليفاً إيديولوجياً له، وأراضيها كانت عمقاً استراتيجياً لعاصمته في مرحلة الصراع البارد بين الشرق والغرب..
لسنا بصدد استعراض الأسباب التي أشعلت فتيل الحرب بين الجارتين، ولسنا أيضا بصدد استعراض الاسباب التي قسمت العالم مِنْ جديد إلى أقطاب متناحرة، ولسنا بصدد الإشارة إلى أعضاء كلّ قطب، وأهدافه- غير المعلنة- من وضع البشرية بأسرها على حد سكين، فالإعلام- سواءً بتحيزه لإحدى الجهات، أو بحيادته- قام بهذه المهمة، ولم يعد خافياً على أحد أن وكلاء القطب الأكثر توحشاً هم من يقومون بالمهمة الساخنة، وهم من يدفعون الثمن بالنهاية، تحت شعارات فضفاضة، أهمها الدفاع عن الديمقراطية، كما لم يعد خافياً على النخب الثقافية أن ترجمة هذا المصطلح على أرض الواقع في مرحلة الليبرالية الأخيرة، لن تتجاوز مفرداته طموح رأس المال العالمي في التجول بحرية ضمن أهدافه المبعدة بالكامل عن رغبة الإنسان بامتلاك حريته الفردية التي سعت الليبرالية في طور نشأتها الأولى إلى إرساء قواعدها في مجتمعاتها، وتحت رعاية الدولة الحديثة، التي سوف تقايض مواطنيها بجزء من هذه الحرية مقابل تأمين الرفاه والأمان لهم ولأسرهم، الجزء الثاني من الحرية لن يخرج من تحت وصاية الدولة الحديثة، وإنما سيكون دستورها ضامناً له تحت اسس الديمقراطية، التي سنت قوانينها- أيضاً-، الليبرالية بعد أفول الحرب العالمية الثانية، ولم تكن الاشتراكية العلمية بعيدة عن هذه الأسس للدولة الحديثة إلّا بما تتطلبه إيديولوجية كلّ منهما: رأسمال ما بعد الحداثة سوف يرى بهذا العقد بين المواطن والدولة ضرباً من المثالية الطوباوية التي تقف عائقاً أمام طموحاته في تسليع الإنسان، وجعله عبداً تحت إمرة” التقادم المخطط له” وهو: ( ظاهرة اقتصادية، ملخصها يقوم على طرح المنتج لفترة محددة من الزمن، ثم استبداله بمنتج استهلاكي آخر يؤدي الوظيفة نفسها، عن طريق وقف تسويق الأول أو التوقف عن إنتاج قطع تبديلية له، أو طرح بديل متطور نسبياً عنه، وذلك لحمل المستهلكين على تغييره وشراء البديل الجديد، بالرغم من الأول مازال صالحاً للاستعمال، والمثل الأكثر وضوحاً لهذا سنجده في مجال الأجهزة التقنية، وطراز الملابس)، ولدرء هذه الظاهرة لكونها باتت تشكل عبئا ليس على المستهلك، وحسب، وإنما على برامج الرفاه والتنمية الواجب على الدولة الإيفاء بذمتها من خلال تقديمها لمواطنيها، ما دفع الكثير من الدول المتقدمة لسن قوانين تلزم الشركات بتقديم تعهد لإنتاج قطع الغيار، وأجندة زمنية واضحة لصلاحية المنتج، وليس هذا سوى جزء من فيض بما يخص الصراع بين الدولة الحديثة ورأس المال العالمي، الخارج عن السيطرة تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الصراع استطاع تغيير إيديولوجيات الدول التي كانت تدين بالاشتراكية العلمية في السابق، وتابع الزحف لينقل دول الليبرالية التقليدية إلى ساحة معركة ساخنة، لاستنزاف مقدرات الدولة، والنيل من هيبتها، ومن ثم إسقاطها بشكل كامل، أو تحويلها إلى دولة فاشلة غير قادرة على الإيفاء بذممها لمواطنيها، كما فعل مع دول حلف “وارسو” بالعقد الأخير من القرن العشرين، مما يفسح لرأس المال بأن يصول ويجول في الميدان من دون أدنى مقاومة، وإن كان الجانبان الاقتصادي والسياسي هما من سيتصدران المشهد بالعلن في حال كتب لهذا المشروع الحياة، إلا أن التبعيات الثقافية ستكون أكثر قسوة، ولن نستطيع الخروج عن الرأي الجازم بأن الفن والإبداع، وكل أنساق العلوم الإنسانية الأخرى سوف تكون مسخّرة لخدمة مشروع” التقادم المخطط له”: فهل هذا ما ينتظره الإنسان في عالم المستقبل، بعد انتهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟!.
في الحقيقة الجواب سوف يكون مآله في ذمة النهاية، التي ستكون بدورها بداية لعالم جديد، سوف يرسم خريطته المنتصر، وسيكون للعالم الثالث مصير غامض في المستقبل القريب، لكنه مختلف عما ألفوه في الماضي، ومهما كانت النتيجة سيكون الشعب الأوكراني المغرر به قد دفع ثمن هذا الصراع من دمه، أما الخاسر الأكبر من العالم المتقدم- على المستوى الشعبي، والمؤسساتي- ستتصدر قائمته الدول الأوروبية المتحالفة -كفريسة مضللة- مع أنياب الرأسمال الأمريكي في أعلى مراحل توحشه، وخاصة أن الأخير يحاول استنزافها اقتصادياً تحت شعار حماية الديمقراطية في دول القارة العجوز، ما يشير إلى أن الحرب الحقيقية- غير المعلنة- هي بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وأن روسيا قد أجبرت على تحمل تبعاتها، حتى لا تكون هي وحلفاؤها فريسة تحت أنياب الوحش.