متفقون أننا نعيش في عصر مِن التناقضات الكبيرة بين الأمل والواقع، لدرجة أنهما باتا ماركة مسجلة للدلالة على تعقيدات هذا الزمن، وليس من المستغرب أن نكون متفقين أيضاً على أنه بائس، وأن أحد أهم أسباب هذا البؤس هو تسليع كلّ شيء، وجعله تحت إمرة قانون العرض والطلب.
لم يكن هذا القانون مِن صناعة الحاضر، بل إن تاريخ ميلاده رافق بداية تعرف الإنسان إلى ذاته بصفته كائناً محكوماً بالعيش في مجتمعات تقوم على تقسيم العمل والوظائف والمسؤوليات، وبالتالي فإننا نستطيع رفع إيجابية هذا القانون ليشغل المكان الأهم في الأسباب التي ساهمت بارتقاء البشرية عبر تاريخها، إلى أن وصلت بنا الحضارة إلى ما نحن فيه الآن من تقدم على الصعد كلّها، إذا كان هذا الإقرار يمجد دوره الإيجابي – وهذا لا ريب فيه – فلابدّ من السؤال: كيف، ولماذا قاد هذا الانقلاب المعاصر بصفته الشخصية ليكون حاكماً شرعياً يدير بؤسنا بدم بارد، وبمنتهى الجدارة والمهنية، لدرجة أن الجميع باتوا يرزحون تحت سيطرته كمساهمين أحرار في الإعلاء من شأنه!!..
-الجواب سوف يطالب بتتبع تاريخ “رأس المال” إلى أن نصل إلى أعلى مراحل هيمنته في ظل “النيوليبرالية”, التي جعلت من قانون “العرض والطلب” عبداً -أيضاً -يأتمر بخططها، وينفذ مصالحهما المشتركة، كسيد لا بدّ من وجوده في حياة كل فرد لمتابعة العيش تحت ثقل بؤسه، ولكن هناك جواب آخر، نستطيع تلمس مراجعه من خلال تتبع مسيرة”العرض والطلب” فقد كان العرض في السابق خاضعاً بالمطلق لقانون الطلب، وهذا ما كان يدفع العارض مسبقاً لتتبع حاجات الفرد المستهدف، ولم يكن هذا على صعيد الإنتاج السلعي، والقوة العاملة، وحسب، بل يتعداه ليصل إلى العمق الثقافي للمجتمع، ما يجعل الطرفين- حتى عند وجود استغلال طرف لآخر- في حالة انسجام تام، وهذا ما دفع بعربة التطور إلى الأمام، أما بعد أن سيَّدت نفسها إمبراطورية رأس المال، وباتت مسيطرة على كل الوسائل الضامنة لاستمرارها، فقد استطاعت، ومن خلال إعلامها المتطور، قلب المعادلة وجعل الطلب في خدمة العرض الاستهلاكي، والتي تسهم «السوشيال ميديا» إلى حدٍّ كبير في تمكين هذا القانون الجديد من النفوس، وجعله نمطاً ثقافياً موحداً لكل شعوب الأرض، ما عزز قيمة الفساد، والانتهازية، لتغدو ثقافة تدين بشرائعها موحدين كل سكان الأرض، ولا من أحد بريء، فالسيد عبد لحركة رأس المال وثقافته الجديدة، من دون أي رادع لضمير، والبائس معزز لهذه القوة المدمرة بأحلامه المريضة بسرطان الإغراءات المتوافرة أمامه، وسعيه الدائم لامتلاك عروضها المغرية، مهما كان الثمن باهظاً حتى لو على حساب كرامته، أو حياته الشخصية، أو إنسانيته، والمتابع لوسائل التواصل الاجتماعي سوف يدرك هذه الحقيقة من خلال التحليل العميق للمنشورات، وإشارات الإعجاب والتعليقات من قبل المتابعين، والتي لن تعزز سوى عبوديتهم للمنتج سواء كان هذا المنتج مادياً أو ثقافياً، من دون النظر إلى جودته، أو الحاجة إلى اقتنائه، لتمكين دائرة البؤس من رقابهم ضمن دائرة مغلقة لا يمكن الفرار منها!!..