الغد، بمعنى المستقبل القريب، بات يتخبط في حفرة التوقعات اليائسة، ولا يملك دليلاً مشرقاً يجعلنا نحن المعاصرين لتبدلات آرائه السريعة ننعم ولو بجزء بسيط من الطمأنينة، وكأننا في رحلة مستدامة مع القلق، حتى إن الأخير بات عنواناً عريضاً لأي نصّ يمثل الحاضر !!..
لم تكن في السابق العلاقة الجبرية بين الأرقام بهذه القسوة، فقد كانت على وئام مع الثوابت الهندسية لفلسفة الحياة والتي كانت أيضاً تسير بخطى ثابتة وواضحة، فالعثرات بين الحاضر والمستقبل لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من النتائج، ما سمح للصراع بين الأضداد بالانحياز للوضوح، ليكون سمة رئيسة للتطورات الناجزة، والتي سوف تأخذ دورها بشكل الصحيح ،بدءاً من الحالة الفردية، مروراً بالمجتمع، وانتهاءً بسكان الأرض قاطبة.
العصر الحاضر غير معني بأسس تلك المعادلة، مثلما هو غير معني أيضاً بإنتاج معادلات فلسفية بديلة تواكب التطورات العلمية، ما سمح للفوضى بأن تُسيّد ذاتها على المشهد كنظام قائم بحد ذاته ومهيمن وذلك بوضع البشر في حياتهم العامة والخاصة أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول يتضمن الانتساب لهذه الفوضى، والإخلاص لكلّ ما تنتجه مِنْ حروب، وفساد، ورعونات مالية واستهلاكية، مع الإيمان، والإقرار بعدم مسؤوليتها عن النتائج غير الحميدة التي قد تنتج عن هذا الإخلاص.. الخيار الثاني: يتلخص بالنأي بالنفس، بكلّ ما يحمله هذا القرار من ديماغوجية ناتجة عن عدم قدرة هذا النأي على امتلاك دروع مضادة لهيمنة الأول على مجمل تفاصيل الحياة، والنتيجة هي انتكاسة الطرفين أمام غد كان من المفترض أن يؤتمن على التفاؤل كسلاح أساسي لمقاومة القلق!!..
بما أن الإنسان كائن فلسفي بطبيعته، فقد تمكنت الايديولوجيا بمختلف أطروحاتها مِنْ أَن تلعب دور الرافد الأساسي للأمل، فبإشرافها وتحت رعايتها تشكلت المنظومات الأخلاقية، الجمالية، القانونية، الوطنية، السياسية، عبر التاريخ لتكون رادعاً لجشع “المال” في محاولاته الدائمة لتشييء البشر، هذا الصراع انبثقت عنه خطط ونظريات اقتصادية ساهمت بالإعلاء من قيمة الدولة كراع لحقوق المواطنة، وإن كانت الفروقات هائلة بين الايديولوجيات التي اعتمدت نظام رأسمالية الدولة، وبين نمط الاقتصاد الليبرالي التقليدي لسلطتها، إلّا إنهما كانا قادرين على كبح طموح المال، وإن كان هذا الكبح لا يؤخذ بالمطلق، إلا إنه كان قادراً على رسم خرائط مستقبلية يحرر بياناتها الطموح بغد أفضل..
بالتزامن مع تفكيك الاتحاد السوفيتي كمثل يحتذى به لرأسمالية الدولة، دخل الاقتصاد الليبرالي ومؤسساته الأخلاقية والقانونية أيضاً في أزمة،كانت كافية لمنح المال فرصته الذهبية بالتحرك خارج القوانين التي قامت الايديولوجيات بسنها في السابق، لتأمين مسيرة الأمل للنفوس البشرية ضمن أنظمة وقوانين مرعية بمؤسسات محلية ودولية، بمعنى آخر نستطيع القول بأن النتائج كانت ملائمة لامتلاك الفوضى لزمام الأمور، ولأن الأخيرة بحاجة أيضاً لايديولوجيا لضمان استمرار ملكها فكان لا بد من العودة بالمجتمعات إلى أحضان الأثنية العرقية والطائفية، والتي ستكون دافعاً لتأجيج الصراعات المحلية والإقليمية، وبذلك سيكون المال ليس مستثمراً في هذا الشق الدموي فحسب، وإنما ضامن لعدم عودة الفلسفة إلى الصدارة، بصفتها البوصلة التي يقع على عاتقها الإشارة إلى حيث يستوطن المرض، ومن ثم وصف الجرعات القادرة على اقتلاع الوجع من جذوره، أو وضعه تحت السيطرة على الأقل، لإفساح مكان مرموق لأمل الإنسان في جعل مقدرات الحضارة بما فيها حركة المال تحت خدمته، وليس العكس.