لم يكن الشارع كما عهدته من قبل، فالأبنية الساكنة على جانبيه أغلقت نوافذها، وأطلقت لأجنحتها حرية التحليق، أما المارة بأزيائهم المختلفة، فقد اكتفوا بجعل أعينهم حليفة للأرض في دورانها، وتابعوا النظر إلى الخلف، أما خطواتهم البطيئة فقد كان لها رنين غير منتظم، يشبه تصادم الأشجار في ليلة عاصفة:
في منتصف الرؤيا، رأيت العصافير تفرّ مِنْ بين أكف النساء بلا أجنحة، كانت تشعل مناقيرها بعود ثقوب، وتزحف على بطونها كالأفاعي، ينضم إليها سرب جراد بعد أن تخلى أصغرهم سناً عن حلمه، ومات!!..
امرأة بعمر القصيدة، كانت ترتدي بكفيها نعلين بلونهما الأحمر، وتلّوح بأصابع قدميها للريح أن تتوقف عن المسيل، كانت الريح هالة من فِطرٍ بهيئة دخان، ورأيت الشعراء قوافل جمال مقطوعي الرؤوس، يعبثون بأقلامهم، والأوراق تتطاير فوق سنامهم سحابات سحابات ولا تمطر!!..
لم تكن شمس الظهيرة معنية بما تشاهد، كانت منشغلة بخلع بردتها الشقراء، كانت تتأبط وجهتها نحو الغروب، وتشير إلى القمر بأن يتابع مهامه في البحث عن نجمة أفلتت من شباكها ذات مساء، كان ظنها يأمل أن تغدو مدينة، فخلعت قبعتها، وهوت إلى ما دون العتب، وغاب مصيرها عن السماء، حتى إن الأشجار نسيتها، ولم تعد الأنهار تروي قصتها لعاشقين يبكيان على ضفتيه خوفاً من أن يحدو بهما الليل القادم إلى فراق!!..
-لم يعد هناك قادم: يقول الرجل الذي يرتدي معطفاً من جلد الذباب، ويتابع انحسار ظله، كأنه في مأدبة دائرية تناقش المستجدات التي جعلت المدينة تطلق لأبنيها حرية التحليق!!..
رجل آخر ممن خسروا جاذبية الأرض، وبات يتأرجح بقفازيه فوق عمود فضي للإعلانات الجارية، لم يعد يصرخ بانتظار أن تأتي سيارة الإسعاف، كما كان يفعل عندما كان للشفق عنوان، ولم يعد بحاجة لأن يتذكر تلك الصبية التي أهدته قرنفلة، ثم اختطفها السنونو، كانت لوحات الإعلان في حينها تحاكي الأجساد الرشيقة، وأحمر الشفاه، وعيد القديس فالنتاين، وأشياء أخرى تنشبها المحافظ الجلدية، ومواسم التنزيلات على أسعار الألبسة الشتوية، كان الوقت يقترب من الربيع، وكان يبحث عنها بين زحام الحدائق، وكان لدروب المدينة شاخصات مرور، لم يكن يأبه لذلك، كان شاباً يقفز بخفيه الرماديين بين المركبات، كخلية نحل، ولا يخشى السقوط، كذلك الآن لم يعد يخشى السقوط، هرب رأسه إلى جهة يجهلها، أما ذراعاه فقد توزعا على حواف النوافذ المغلقة بانتظار أن تأتي من كان يبحث عنها، جاره الذي تسلق بنصفه الأسفل سور السطح المقابل تجمدت سخريته في مكانها، ولكون أصابعه بلا قفازين، فلم تعد لابتسامته المتجمدة أي معنى، حتى إن العصافير الزاحفة على إسفلت الشارع لم تعد تنظر إليه!!..
ملاحظة: هناك مفردات من داخل الرؤيا لم أستطع رصفها في جمل مفيدة، مع العلم أني اعتدت تداول معانيها قبل أن أمتثل أنا أيضاً لغياب الجاذبية..