كلما أشرقت الشمس، تنقض عليّ الدروب، فأندفع هارباً بخطوات مملة إلى حلبة السباق، وهناك حيث الفراغ يملأ المكان، أتدثر بالنظر إلى الخلف، بينما قدماي تتخذان من زاوية الحلبة مقعداً لن يتسع سوى لرصيف اعتاد أَنْ أكلمه وأنا مطرق الرأس، هناك حيث الأرجل تتشابكَ مع بعضها، لتغدو كتلة واحدة معفاة مِنْ مغبة التمييز فيما بينها، هناك وتحت خط الدرجة صفر يتنامى السكون، كما لو أنه تلة لأثر غاب عنه الزمن، فاحتمى بتاريخه كي لا يضلّ بين أجراس الماشية الملوِّحة للغروب بمزيد من الرنين، ولا من مجيب!!..
أمتار قليلة تفصلني عن ملامسة الخيوط الذهبية، وكلما اقتربت عيناي من ملامسة الرصيف، تدنت المسافة بيني وبين الشمس، وكبر حجم التلة التي تحيط بي من جميع الجهات، فيزداد الحفيف في داخلي لبضع دقائق، وبما أني لا أمت لسلالة الأفعوان بصلة رحم أو قرابة، فإن رائحة الخبز المحملة على غيمة عزلتها زرقة السماء عن البحر في ليلة صيف، سوف تنقذ صدري من الهلاك، لأتابع مع الأرجل المتشابكة الدوران حول الحلبة، بشكل يضمن لي الانفصال عنها، إذا ما اخترت العزلة مع الخيوط، والتحدث عن رحلتي في هذا الفراغ !!.
ليس للفراغ سرير يأوي إليه، ولا نافذة يطلّ من خلالها على الذاكرة، هو كائن محدودب الظهر، يتأمل فردتيّ حذائه ولا يهوى الركض، ولا متابعة المباريات الأولمبية، وكثيراً ما كان يعتمر برأسه خرقة صنعت له خصيصاً من صوف الأغنام اتقاء لأشعة الشمس، ويغني بصمت، أما أكثر صفاته فظاظة فتظهر عندما يحدث نفسه، عن قافلة من العميان، وكيف اختاروه ليكون دليلاً لهم عندما تخلو الشوارع من إشارات المرور، فألحقهم بالتلة، وبات الجميع من دون أجراس، كأنهم في حفلة سرية مع الضحك !!..
الفراغ لا يضحك، ولا يعرف البكاء أيضاً، مع إنه يمتلك جدائل شقراء يعزلها بخصره الرشيق، وله أصابع تهوى مغازلة الضحية، فتمنع عن حنجرتها التجذيف بعيداً عنه، مرات لا تحصى حاولت الانفصال عنه، إحداها كانت في الصباح، حوالي الساعة العاشرة، كان الطقس في حالة من الاستغراق التام مع شمسه، والمقهى يلازم الشارع الموازي لمكان إقامتي، ولا من شيء يقف حائلاً من الوصول إليه، فارتديت معطفي المطري تجنباً لأي طارئ قد يفسد الضوء، واندفعت بغرور طفل حصل للتو على ثناء من أولاد عمومته لفوزه بمسابقة الجري التي أشرف عليها مختار الحي بنفسه، عندما فُتح الباب كانت المقاعد خاوية إلا من الفراغ، كان يتصفح صحيفة قديمة، أشار إلى أن أقاسمه كأس الشاي الوحيد، ونتعاون في حلّ الكلمات المتقاطعة، أذكر كلمة أجراس رفضت التقاطع مع التلة، فالتحقت على الفور مع الأرجل المتشابكة فوق الرصيف، في مرات أخرى كنت أختار أن أكون كلمة السر، فأتقمص درجات السلم الموسيقي، وأغني في الهواء الطلق، لكنه كان دائماً يقبض عليّ ويعيدني إلى القطيع، فأضحك، وأتابع الجري بأرجل ملولة إلى أن أغفو، بينما رائحة الخبز تتأرج فوق سريري، ولا من مجيب.