الصحافة الأدبية.. وفن مشاهدة حياة الآخرين
تجوالٌ بين غياهب الظلمات حاملاً سكيناً مثلّماً.. عادة ما تجري التحقيقات على هذا النحو – خيط أو اثنين، يرنو بعدها الكاتب لخيالٍ يطور نظرياتٍ حول ماهية الحقيقة، الحقيقة التي يجهلها، ينقبُ عن وعي عميقٍ حينما يجد نفسه بمواقف محفوفة بالمخاطر.
بحثٌ وتقصٍّ نُسجا بتقنياتٍ واستراتيجياتٍ أسلوبية خاصة انبلجت عن شكلٍ إبداعيٍّ واقعيٍّ.. انغماسٌ بموضوعات معقدة صعبة، تصدح بصوتٍ ملتزمٍ بعهود ضمنية حول الدقة والصراحة والتقيد بالواقع.
إنه عالم الصحافة الأدبية! أو ما يسمى الصحافة السردية أو الجديدة، حيث يقدم الصحفي التقارير الواقعية بتقنيات خاصة للسرد واستراتيجيات مرتبطة تقليدياً بالخيال.
«لهذا السبب تُقبل البلدان المتضورة جوعاً في آسيا وإفريقيا كمنتجعاتٍ سياحية، فلا أحد سيفكر بإدارة رحلاتٍ رخيصة إلى مناطق معوزة، لكن حيث يحمل البشر بشراتٍ سمراء فإن فقرهم ببساطة لا يُلحظ».
الصحافة الجديدة
في مقالته الأدبية (مراكش) لا يكتب جورج أورويل مقالة شخصية عاكسة لأسفاره، كما أنه لا يخطّ مذكراتِ شكلت حياة ابن عسكري مستعمر، بل يعبر عن رغبته القصوى بأن (يجعل من الكتابة فناً)!.
(نثر واقعي مطبوع) عبارة وصفت الصحافة الأدبية على لسان الصحفية روز وايلدر– كتابةٌ إعلامية تتدفق وتتطور، يتشكل محتواها الواقعي منساباً لقصة أو رواية أو لوحة وفق تقنيات السرد والبلاغات.. لعلها قصصٌ يقدم المؤلف عبرها تفسيراً حول الأشخاص أو ثقافاتهم.. نوعٌ يسمح للقراء بـ«مشاهدة حياة الآخرين» كما أوضح الكاتب نورمان سيمز، حيث الحكايات نفسها ترمز إلى حقائق أكبر. أما الجزء الأكبر من العمل بالنسبة لجون إي هارتسوك فيقع على عاتق الصحفيين المحترفين.
تقول الكاتبة الصحفية أليسون هوفر بارتليت في مقدمة كتابها عاشق الكتب الذي نشرت قصته بمقالات متتابعة لتجمعه في رواية أخيراً: «كلما تعلمتُ أكثر عن جامعي الكتب، أعتبر نفسي جامعة، ليس للكتب بل لعناصر الرواية هذه، إذ غدت حالي كحالِ جامعيين قابلتهم، أضفتْ عليّ المعلومات المكدسة شغفاً لذيذاً لا يوصف. قرأت عن النقوش الشهيرة والتزوير والاكتشافات، ازدادت أعداد دفاتر الملاحظات عندي، انتصبت في أكوام و تلال».
غالباً ما تُسرد الصحافة الأدبية بضمير المتكلم الذي يجعل المؤلف لإحدى شخصيات القصة، كما تميل للابتعاد عن الراوي الغامض أو الموثوق، لكنها تعتمد في الوقت ذاته صحافة غرفة الأخبار التقليدية من مقابلات وأبحاث وتقارير، وعلى نقيض وسائل الإعلام النموذجية الجافة يستخدم الصحفيون الأدبيون أسلوباً جذاباً لصياغة قصص لا تُنسى.
تاريخ الصحافة الأدبية
تم الاعتراف بالصحافة الأدبية لأول مرة في الستينيات من القرن الماضي كحركة سميت بالصحافة الجديدة. قدم توم وولف في كتابه (الصحافة الجديدة) عام 1973 نظرية حول سبب تفجر الصحافة في الستينيات، محدداً أربع سمات رئيسة لها: بناء مشهد بمشهد (من أرض الواقع)، حوار واقعي عبر الملاحظة الدقيقة والتدوين، وجهة نظر قريبة للشخص الثالث تسمح للقراء بالوصول لعقول الأشخاص، إضافة لتفاصيل متعلقة بـ«حياة الحالة» أو وصف يكشف خلفيات الأشخاص. أما النسخة المميزة من الصحافة الأدبية فتَدينُ منذ بداياتها لستيفن كرين وهنري مايهيو وجاك لندن وجورج أورويل وتوم وولف، لتتابع مسيرتها بأسماء مرموقة أمثال جون ماكفي، وجين كرامر، ومارك سينجر، وريتشارد رودس.
يشير مصطلح (الصحافة الأدبية) إلى روابط الخيال جنباً إلى جنب مع الصحافة، لكن وفقًا لجان ويت، لا تتناسب الصحافة الأدبية تماماً مع أي فئة أخرى من الكتابة.. «الصحافة الأدبية ليست خيالاً – الناس حقيقيون والأحداث واقعية – وليست صحافة بالمعنى التقليدي في الوقت نفسه».
دور القارئ
نظراً لأن الخيال الإبداعي شديد الدقة، فإنّ عبء تفسير الصحافة الأدبية يقع على عاتق القراء.. يوضح جون ماكفي بالقول: «من خلال الحوار والعبارات وعرض المشهد، يمكنك تسليم المادة للقارئ الذي يمثل نسبة تسعين بالمئة من صناعة الإبداع التي يضع بها الكاتب خطواته الأولى».
وفي النهاية لا ننكر أن المهارات التي تستخدم الأحداث كبوابة لثقافة فرعية متمايزة جذابة تثير فينا التساؤل عن كاتبها! أتراه نجا من التورط بالحكاية على نحو ما ؟!.