أصدر الكاتب الأمريكي كريس هيدجيز كتاباً بعنوان “أمريكا.. رحلة الوداع” استعرض فيه مقدمات نهاية الإمبراطورية الأمريكية، وقد تُرجم هذا الكتاب حديثاً إلى اللغة العربية.
وقد كتب ناشر هذا الكتاب الدكتور هاني الخوري قائلاً: ليس سهلاً أن تقف أمام كتاب تحليلي شامل للحضارات العالمية بوقائعها من بداية التاريخ إلى نهايات الرأسمالية، ومن أزمات الفيضانات إلى أزمات انهيار الشبكات الحاسوبية وتقنيات المعلومات والمراقبة، كساد عالمي وإنذارات بقرب انهيار الدولار وتراجعه كعملة احتياط عالمية.
وأضاف الخوري: كريس هيدجيز كاتب محترف في جمع الوقائع والحقائق ويسلط الضوء على المشكلات، أنتج كتاباً غير مسبوق يفضح التأزم الأمريكي ببعده العالمي، وقد طبع الكتاب منذ عامين وبيع منه أكثر من ثلاثمئة مليون نسخة، فصار من الكتب الأكثر مبيعاً في أمريكا والعالم.
الكتاب كما أورد المترجم حسين صلاح الدين، عاطفي ومثير ومن المؤكد أنه يثير الجدل، لكنه يطرح وجهة نظر تتطلب الاستماع لها.
وأضاف المترجم: ربما يكون كريس هيدجيز اليوم أهم مفكر عام وربما يكون كتاب “أمريكا.. رحلة الوداع” أهم كتبه، وقال صلاح الدين: “إذا استطعنا نحن كمجتمع أن نجتاز مرضنا الحالي إلى الموت فإن ذلك سيكون إلى حد كبير بفضل كتاب كهذا.”
“أمريكا.. رحلة الوداع”، يحتوي على سبعة فصول، تبدأ بعنوان “الانحلال”، يشير فيه الكاتب أن كل ما يحدث في الكون لا بد أنه ماض إلى زوال، وهذا ينطبق على أمريكا حيث أن هذا النسيج لن يدوم إلى الأبد، بل إنه سوف يعاني الانحلال.
وقد شبه الكاتب أمريكا بمعمل قديم يسمى سكرانتون، بدأ العمل فيه عام 1891 وأغلق في عام 2002 وكان هذا المعمل أشبه بمجمع ضخم لصناعة أربطة الأحذية ثم استخدم لصناعة المظلات أثناء الحرب العالمية الثانية، ورغم ضخامة هذا المعمل وتعدد أجنحته، فإن هذا لم يضمن له البقاء، بل انهار وأغلق كما ورد، وهذا هو حال أمريكا.
وقد استشهد الكاتب بالمفكر المشهور كارل ماركس الذي قال: “إن الرأسمالية قد حملت في داخلها بذور فنائها وربما يأتي يوم عندما تستنفد الرأسمالية قوتها. “لكن ماركس لا يعرف متى سيأتي هذا اليوم.
واستعرض الكاتب بعض الشواهد على النمو الرأسمالي الذي سيؤدي حتماً للانفجار لأنه يمتص طاقات العمال فيه الذي يستخدمون كعبيد في المنشآت الرأسمالية.
وفي الفصل الثاني من الكتاب استعرض الكاتب أسلوباً جديداً للرأسمالية التي لا يهمها سوى الربح، وهو استخدام الهيروين خاصة في المجتمعات الرأسمالية، ذلك المنتج الذي يؤدي إلى تعطيل الفكر ويحول من يتعاطاه إلى دمية تتحرك كما يشاء صانعها وهذا المشهد موجود في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، مشهد لا بد أن يؤدي إلى انهيار في المجتمع وقيمه.
وفي الفصل الثالث من الكتاب استعرض الكاتب وبالشواهد قيم العمل في المجتمعات الرأسمالية قائلاً: “عندما تصبح الحياة لا تستحق العيش، يصبح كل شيء فيها حجة لتخليص أنفسنا منها، هناك مزاج جماعي كما أن هناك مزاجاً فردياً يدفع بالأمم إلى الحزن.. ولأن الأفراد مرتبطون ارتباطاً وثيقاً جداً بحياة المجتمع بحيث يكون مريضاً من دون أن يتأثروا، تصبح معاناته حتماً هي معاناتهم، وهذا ما يحصل في الولايات المتحدة الأمريكية وشواهد الانتحار دليل على ذلك”.
وتشير إحصائيات الاتحاد الأمريكي لعلم الانتحار أن أمريكياً أبيض يقوم بالانتحار بمعدل وسطي كل عشرة أيام وأن مئة وواحد وعشرين أمريكياً ينتحرون يومياً، غالبيتهم الساحقة من الرجال، كما أن سبعة من كل عشرة من هؤلاء الرجال هم من البيض الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 45- 47 حيث يقوم حوالي 44193 أمريكياً بالانتحار سنوياً، ناهيك عن محاولات انتحار أكثر من 1.1 مليون أمريكي سنوياً.
وفي تحليل الكاتب لهذه الظاهرة، فإنه يرى في مقدمة الأسباب؛ البطالة وفشل حالات الزواج وفقدان التماسك الاجتماعي.
ويلفت إلى أن انهيار الطبقة العاملة البيضاء والتي تمتلك ثقافة المدرسة الثانوية بعد أن وصلت إلى أوجها في السبعينيات أدى إلى مجموعة متنوعة من الأمراض التي خلقت يأساً قاتلاً لا يحتمل.
وأضاف الكاتب، لقد أضعفت هذه التغيرات الأمريكيين، ويبدو ذلك واضحاً عندما يختارون مهنهم وطبيعة حياتهم، وعندما تنجح هذه الاختبارات فإنهم يتحررون، وفي حال فشلت يمكن أن يعتبر الفرد نفسه المسؤول، وفي أسوأ حالات الفشل يكون ذلك وصفة شبيهة بوصفات ديركهايم للانتحار وبوسعنا أن نرى ذلك على أنه فشل في تحقيق التوقعات الأولى أو بشكل أعمق فقدان للهياكل التي تعطي الحياة معنى.
أما في الفصل الرابع من الكتاب والذي يحمل عنوان “السادية” والذي شبهه الكاتب بـ”الفاشية” ذلك الفكر الذي ينبع من الانحراف الجنسي ويحول الطابع المازوخي (أي تلذذ المرء بالاضطهاد الذي يتعرض له) للأفكار الدنيوية القديمة للمعاناة، إلى فكر سادي، باختصار إنها تحول الفكر من الدنيوية الأخرى لفلسفة المعاناة، إلى فكرة القتل السادي.
وتابع الكاتب في هذا الفصل، تعد الصناعة الإباحية من العوامل التي ستؤدي إلى سقوط الإمبراطورية الأمريكية، وعندما تحارب الإباحية فإنك تحارب الرأسمالية العالمية، ذلك أن الرأسماليين المضاربين والمصارف والشركات يقعون جميعاً بتلك السلسلة، وهذا هو سبب عدم رؤية قصص مناهضة للإباحية، كما أن وسائل الإعلام مشمولة بذلك فهي تنام حالياً بسرير واحد مع هذه الشركات، والإباحية جزء من ذلك، فهي تخبرنا بأنه لم يترك لنا أي شيء ككائنات بشرية (الحدود والكرامة والرغبة والإبداع والأصالة) فإذا كنا مجتمعاً (كنا كائنات بشرية مترابطة ككل في جماعات حقيقية) عندئذ لن يكون بوسعنا أن ننظر إلى الإباحية، لن يكون بوسعنا أن نراقب كائناً بشرياً يتألم.
واستعرض الكاتب في الفصل الخامس مسألة “الكراهية” التي اعتبرها أحد أهم أسباب انهيار النظام الأمريكي، وتتجلى هذه الكراهية باحتقار البيض للملونيين والسود في أمريكا واعتبر ذلك أحد أهم العوامل في انهيار المجتمع الأمريكي، وقد استشهد الكاتب بالروائي ألبير كامو، حيث ذكر على لسانه في روايته المشهورة “الطاعون” عندما كان بطل الرواية يستمع لصيحات الفرح المنبعثة من المدينة “تذكر أن هذا الفرح يكون مهدداً دائماً”، كان يعرف ما لم تعرفه الحشود المبتهجة، ولكنها قد تكون تعلمت من الكتب أن عصية الطاعون لا تموت أبداً أو تختفي لصالح الخير، بل تقبع نائمة سنين وسنين في أثاث المنزل ورفوف الكتب وسوف يأتي يوم تستيقظ فيه وترسل لتموت في مدينة سعيدة.
إن هذا التشبيه كما يراه الكاتب ينطبق على حال التمييز العنصري في المجتمع الأمريكي الذي لا بد أن يؤدي بشكل أو بآخر إلى تفككه.
أما في الفصل السادس الذي أطلق عليه الكاتب عنوان “المقامرة” فقد أكد بأنه في الولايات المتحدة وتحديداً في فترة ما بعد الصناعة أصبحت الكازينوهات مشابهة لاقتصاد السفينة الدوارة بإحداث صناعة خدمات أساسية بتتبع الخبرات والأحلام، ومع انفجار الفقاعات الاقتصادية، فقد بدا اقتصاد الولايات المتحدة منذ بداية الألفية الجديدة بأنه اقتصاد كازينوهات أكثر من كونه اقتصاد مصانع، إنه مكان تضع فيه نقودك وتشبك أصابعك، حيث يبدو شراء منزل أو الادخار للتقاعد أو الحصول على قرض وربما البدء بعمل تجارب أو حتى قبول عمل ما، مغامرة خطرة أكثر منه رهانات مؤكدة.
وفي هذا الزمن الأمريكي يبدو الأمريكيون وكأنهم مقامرون حتى عندما لا ينوون أن يكونوا كذلك، لقد تجاوز عدد الكازينوهات في الولايات المتحدة عام 2017 الـ900 كازينو، تحقق هذه الكازينوهات أكثر من 37 مليار دولار سنوياً، وهو ربحاً يفوق صناعة الموسيقا (6.8 مليارات دولار) وصناعة السينما (10.7 مليار دولار ) وربح القطاعين معاً يعادل 17.5 مليار دولار تحققها الهيئات الأربع للرياضة في الولايات المتحدة حيث تولد ماكينات لعب القمار والبوكر عن طريق الفيديو 62% على الأقل من إيرادات الكازينوهات وذلك حسب تقرير الاتحاد الأمريكي للعب القمار، وتقبض الكازينوهات في أيوا وداكوتا الجنوبية ما يزيد على 9% من إيراداتها من ماكينات لعب القمار، وهذا سبب مهم سيؤدي إلى انحلال “الإمبراطورية الأمريكية”.
وفي الفصل الأخير من الكتاب الذي سماه الكاتب “الحرية”، أكد من خلاله أن عاملاً مهماً سيؤدي إلى انهيار المجتمع الأمريكي متمثلاً بـ رسالة المجتمع الاستهلاكي التي يجري ضخها على الشاشات التلفزيونية المسطحة والحواسيب والهواتف الذكية لأولئك القابعين في العجز في قاع المجتمع رسالة حادة لا هوادة فيها تقول “أنتم فاشلون”.
إن الثقافة الرخيصة تمجد أولئك الذين يتخبطون في السلطة والثروة والهواجس الذاتية وتخلد الأكذوبة القائلة بأنك إذا اجتهدت في عملك وكنت ذكياً يمكن أن تصبح ناجحاً.
إن التفاوت بين العالم المتلألئ الذي يشاهده الناس والعالم القاتم الذين يعيشون فيه يخلق انفصاماً جماعياً يتجلى بأمراض اليأس وحالات الاكتئاب والانتحار والإدمان وجرائم العنف والكراهية وهذا ما يشهده المجتمع الأمريكي منذ سنوات طويلة برزت واضحة في السنوات الأخيرة، وقد صور ذلك الروائي الأمريكي ووكربيرسي في روايته “حب في الخرائب”، إذ عكست الرواية صورة أمريكا المنحطة أخلاقياً والمستهلكة من مبدأ الركض وراء المتعة والتخبط في الجهل يقودها مجموعة من الحكام اللصوص والحمقى الذين يخلقون الحروب في بقاع كثيرة من العالم ويغذون التطرف بكل أشكاله.
ويتساءل الكاتب -حسب ما جاء في الكتاب- كيف يمكن لأي إنسان أن يعيش حياة ذات معنى في مثل هذا المجتمع الذي يفتقد إلى أبسط قواعد الحرية والمساواة؟
ويجيب بأن جميع المؤسسات الأمريكية فاسدة، فقد تجرعت الصحافة والجامعات والفنون والمحاكم والمؤسسات الدينية بما فيها الكنيسة شراب الاستثنائية الأمريكية السام وأسطورة الفضائل الأمريكية التي تخلط الحرية بالرأسمالية المنفلتة.
كما بين الفصل الأخير من الكتاب أن الحزبين الرئيسيين في أمريكا الجمهوري والديمقراطي يقعان في المصيدة ذاتها، فكلاهما يطرح شعارات الحرية من دون أن يسمحا بممارستها بشكل حر متكئان على عناصر الأمن والشرطة التي غالباً ما تمارس سحق الحريات وخاصة للسود والملونين، مشيراً أنه في نهاية العام الماضي2020 قتلت الشرطة بالرصاص أكثر من 995 شخصاً.
ولفت الكاتب إلى أن الشرطة الأمريكية لا تخضع للمساءلة وهي تنشر الخوف والرعب في المجتمعات الفقيرة وتقوم بسحق الحريات حيث تداهم فرق الأسلحة الخاصة والتكتيك، المنازل بموجب مذكرات جلب لجرائم لا تتسم بالعنف وفي بعض الأحيان تطلق النار على الناس.
ويختم الكاتب بأن الإمبراطورية الأمريكية ماضية إلى نهاية ما، فالبلد لم تعد لديه القوة والاحترام اللازمين لحث الحلفاء في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا على تلبية دعوتها، فضلاً عن الدمار المتزايد الناجم عن تغيير المناخ.