التقينا بعد زمن!.. التقينا بعد أن جوبهت القذائفُ الإجرامية العشوائية على بيوتنا الآمنة بسلاح أقوى منها فأسكتها وشتّت أصحابها وبدّد تجمعاتهم الظّلاميّة، وكان بديهيّاً أن نحاول رتقَ الزّمن الذي باعدَ بيننا بفعل التّهجير والإقامات المتعدّدة لكلّ منا، عبر استحضار الذكريات وإحياء لحظات الوئام التي خلقتها جيرةٌ استمرّت عشرين عاماً، لكنني وجدت في صوته أسى ترك له الحبلَ على غاربه! قال إنه كلما تمّ تحرير بقعة من الإرهاب في أدنى أو أقصى البلاد، كان يشعر بالأمان وينهض إلى ترميم منزله وتعويض الفاقد من ممتلكاته البسيطة حتى عادت دورة حياته المعتادة: سقف وباب آمنان ودوام منتظم في عمله بالمؤسسة، وذهاب الأولاد إلى مدارسهم في مواعيدها دون رعبٍ من تفجيرات الغدر، وهو يرصد ما حولَه بعينٍ دقيقة: تشغيل الإشارات الضّوئية في الشوارع الفرعية. إزالة الحواجز من شرايين المدينة. ضوء الصرّافات المشعشع في الأحياء الجانبيّة بعد أن عتّمت وعُطّلت في هياج التخريب المتعمّد. عودة بائع النظّارات والسّاعات وأدوات التجميل والمشاوي إلى فتح محلاتهم، مما كان يعطيه إشارات عميقة، أن كابوس الحرب على سورية تبدّد إلى غير رجعة وستعود الهناءة لتغمر الحياة بعلاقاتها القريبة والبعيدة، لكنه صُدم بما لم يخطر بباله يوماً! أفاق على جيرانٍ جدد بوجوهٍ عابسة وسلوك عصبيّ يخلو من المودة حتى المصطنعة من باب المجاملة! وإذا اضطروا للتواصل من أجل أمر يخصُّ الخدمات المشتركة بدت العدوانية الفائقة غير المبرّرة في سلوكهم، وكلما انفرد بنفسه تذكّر ما قرأه عن أن الحروب الطويلة تُنتج خللاً في العلاقات الاجتماعية، بصرف النظر عن الأسباب التي أهمّها الفِقْد والخسائر المادية والخلط السّريع للبشر مختلفي الانتماءات، وحاول أن يستحضر قيماً أنتجتْها الثقافة العربية عبر قرون من الزمان:
– الجار قبل الدّار. الجار إلى سابع دار. العالِم بحالك، الله ثم جارك! وراعَه أن بعضهم يستخف بهذه الحقائق ويبادره بالقول على عجل:
– عليك بنفسك، وبعد النّفْس ليكن الطوفان! وراعه أكثر أن إحدى زميلاته سخرت منه ومن عيشه في أفكار أكل الدّهرُ عليها وشرب ففي المجتمعات المتقدّمة، بل هي تقدّمت لأنها تجاوزت هذه الأفكار البالية، يغادر الابنُ بيت أسرته ويستقلُّ بنفسه حين يبلغ الثامنة عشرة وأنت تبحث عن وئام مع الجيران؟ هذا هو التخلّف بعينه مثل عدم رمي الملابس البالية والإصرار على تخزينها في الصّندوق كأنها تحَفٌ تزداد قيمتها كلما عتّقها الزمان! وكان تشبيه الصّندوق من قبَلِها موفّقاً رغم أنها لم تقصد! نعم كان الصندوق من المقتنيات الضرورية لحفظ الأشياء الثمينة ولدينا من القيم الرفيعة ما يجب أن نخرجه الآن من هذا الصندوق، نستردُّ به ما فقدناه من إحساسِ تبادل الأمان وفرح التواصل ودفء التحية السريعة والإقبال على المنزل لأن محيطه مسوّر بأناسٍ يفرحون بمرآنا ويفكرون، أبداً، بمنحنا هدية طيبة حتى لو كانت ابتسامة وسؤالاً معتاداً: كيف الحال يا جار؟ “استفقدنا لك”.