ما بعد الفلسفة أو رفع الكُلفة العقلية

تشرين- إدريس هاني:

– يصعب الحسم في الحلّ التّاريخي، مادام العالم، عالمنا، هو في مرحلة انتقالية، مرحلة مخاض في لحظة الذروة، أي بداية مشوار انفراج البنية باتجاه الحلّ التّاريخي. هذا الحلّ التّاريخي ليس حلاّ ساحراً يُقصي الإرادة ويلتفّ على البنية، بل هو تعبير عن مخاض البنية نفسها، بنية تتخارج عبر تفاعل تناقضاتها الداخلية وفاعلية الإرادة، المخرج التاريخي إذاً هو حصيلة تفاعل كل هذه العناصر، لذا لم يكن الاستشراف يوماً مستحيلاً، ولكنه ليس سهلاً، لاسيما حين يتعلّق بسيناريوهات وخطط المديات البعيدة. هناك إذن سيفاجئنا التاريخ بتخارجات أخرى.
– إنّ التشويش على الأحداث التّاريخية، هو تشويش على فعل الإرادة داخل بنية متحرّكة، وبتعبير آخر أقول: إنّ فعل الإنسان في البنية هو الحقيقة التي تخفيها فكرة فعل الإنسان في التّاريخ، فالتّاريخ هو حصيلة الفعل الأوّل، ومن هنا كان النزاع بين البنية والتّاريخ بمثابة الخدعة الكبرى في علوم الإنسان.
– التفاعل مع مخرجات مرحلة من تاريخ العقل والمعرفة، يوحي بأنّ عصر انحطاط داهم يُصيب الإنسانية، ربما خانت اللغة تشومسكي حين تحدث عن سقوط في العدم. كلا، سيبقى العالم، وسيبقى البشر ولو بشرط لُكع ابن لُكع، إنّ انهيار خيار حضاري في لحظة استنزاف نمطه ونموذجه، هو اللحظة التي تسبق انفراج البنية بصورة متطورة في التّاريخ. هنا العدمية لن تكون سوى دعوة منهجية لتهيئة الذهن البشري لنمط آخر من أنماط الـ(Homo ludens)، للعبة أخرى بمظاهر فرجة مختلفة وقواعد اشتباك جديدة، وهو نفسه مع إيمانه بدور الإنسان اللعبي، إلاّ أنّه قام بتشريح لتعاسة العصر الحديث.
– على هذا الأساس وجب فهم السياسة الدولية نفسها باعتبارها تجّلياً لانحطاط توتاليتاري، بل هي تجلّ لأزمة أنطولوجية عارمة. لم يعد للألفاظ في المقاربة الجيواستراتيجية أي قيمة، طالما لم يعد هذا المعجم المفاهيمي حصيناً أمام الاختلال الديالكتيكي، والفوضى الممنهجة بين الأطروحة ونقيضها. ومن هنا أهمية البعد الأنطولوجي في حماية علم السياسة نفسها، بوصفها باتت هي الأخرى في خدمة سيرورة الانحطاط تلك. تبقى الأحداث مجرد تجلٍّ للانهيار العظيم.
– أخشى أن أغفل عن السؤال الأنطولوجي، لأنّ هذه الغفلة ستفتح أمام الفيلسوف صندوق باندورا من الأسئلة المغشوشة التي تحجب السؤال الاستراتيجي في الميتافيزقا، إنّها من تجلّيات النسيان، نسيان الوجود لدى هيدغر، مع أنّ جيوباً من ذلك النّسيان لم يتجاوزها الـ«دازاين» نفسه. وكما أنّ الكوجيطو الديكارتي لم يَمحُ كلّ ما سبق، فكذلك الدازاين الهيدغيري لم يخلص الميتافيزقا من كلّ النسيان. الاقتصاد في السؤال الفلسفي، يقتضي الخروج من هذا التّشظّي، والقبض على ما كان أصلاً أصيلاً، منه تفرعت سائر الأسئلة. وكما نميز بين أصالة الوجود واعتبارية الماهية، فكذلك نميز بين أصالة السؤال واعتباريته. إنّ حمل الوجود على الماهيات له أنحاء كثيرة، وبالتالي حالات كثيرة، وبالتالي تجليات كثيرة، فأسئلة كثيرة.
– إنّ التقنية باتت هاربة من الإنسان، لقد صادرت منه سلطة العلم والشعور بالسيطرة، إنّها تتفوّق عليه يومياً، لم تمنع عنه خطر الوباء ولا الأمراض المزمنة ولا الحروب ولا رفعت عنه الفقر، إنّه ليس فقط كائنا مستلباً، بل هو اليوم كائن مستعبد لنمط من التفكير أنهى المهمة الكاملة للعقل، حيث حدّدها في مهام كان بإمكان النخاع الشوكي القيام بها دون الدماغ البشري. إنّنا في عصر رَفِع الكُلفة العقلية.
– مرّة أخرى، ما المقصود بالـ(la philosophie en réclame)؟ إنّه التخفيض الجزافي في ثمن العمق الفلسفي، إنّه تعويم مفاهيمها وتخفيض التكلفة، الذي يجعل المتلقّي يلتفّ على الجودة ولا يدفع ثمن الجِدّة. تقتضي محبة الحكمة دفع التكلفة، ومن استرخص ثمن الحبيب خان الحكمة. الفلسفة بهذا المعنى لا تحتاج إلى إعلان السّوق، بل هي دفينة نفيسة يُنقّب عنها في بواطن القول. حين نحبّ الحكمة، ننقذ بالتالي آخر أنماط السموّ بالفكر الإنساني.
كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار