كانت تروي لي بتعاطف، قصةً قريبها المنكوب بزواجه من امرأة، مطالبُها من الدنيا أن يكون مطبخُها عامراً بالطعام وأن يلبي اتّصالها الهاتفي فوراً وهو في العمل، لتطلب منه البهارات الناقصة، أو البصل والبقدونس، من دون أن تفكر لحظة واحدة بظروف عمله الوظيفي، وكنت أستمع بأذنٍ واحدة لقصّة شائعة عن أزواجٍ يشكون من حياتهم كأنها مرضٌ مزمن لا علاج له إلا بالتّعايش وديمومة الشكوى، حتى مرّ تفصيلٌ “صغير” في السّرد! قالت إنه عاد في الليل إلى بيته فلم يجد ابنه المراهق وبادرته الزوجة مغضَبةً أنه حمل حقيبته الصّغيرة في الضُّحى وصفقَ الباب وراءه معلناً أن لا عودةَ له إلى هذا الجحيم! هنا تملّكني انتباهٌ واهتمامٌ بما حصل بعد عودة الأب المرهَق إلى بيت الأسرة الذي يُفترَض أنه واحةُ الراحة واسترداد الطّاقة المفقودة خلال النهار، بينما أكملَت قدحَها للزوجة عديمةِ الإحساس، فالزوج بدأ من فوره الاتّصالات الهاتفية بكلّ من خطر بباله من الأقارب: الجدة، العمّ، العمّة، وعندما قارب الفجر على البزوغ أحضره من بيت صديقه الذي يعيش مع أخيه الأكبر وطيّب خاطره وأجّل نقاشه معه حول عدم رغبته في إكمال دراسته في المعهد!
أفزعني المشهد بكل شخوصه من دون استثناء! كنت أظنُّ أن هروب الابن المراهق من البيت خاصٌّ بعصر مضى إلى غير عودة، وعرفته بشكل واقعيّ يوم كان جبروتُ الأب لا يتنازل للاستماع إلى الابن باعتباره غيرَ منتجٍ وغير راشد، ولكم ضاع من الأبناء في تيارات الحياة الصّاخبة، وانكسرت أحلامهم، وساروا في منعطفاتٍ سقطت فيها إمكاناتٌ كان يمكن أن تسلِّحَهم بأفضل الشهادات، أما وقد ازداد التعليم والوعي وحرية اختيار الشّريك واشتدّ التقارب في البيوت الصّغيرة بعيداً عن ربّ الأسرة الكبير المتحكّم، فإن الحلّ الذي يُدفع إليه الابن غير الراشد، لم يكن في خيالي إلا في مسلسلات التلفزيون والرّوايات القاسية! ولم يردعني عدمُ معرفتي بأبطال القصة، عن أسئلة متلاحقة: كيف كان زواج قريبك؟ عن طريق خاطبة؟ بوساطة الأهل؟ مستوى تعليم الزوجة؟ كم أنجبا؟ كيف يسير يومٌ كامل تحت سقف البيت إن كنت تعرفين؟ حال الأبناء جميعاً، هل هناك مواهب لدى بعضهم؟ هل أُجبر الفتى على الالتحاق بالمعهد؟ كانت الإجابة المتكررة: فكّر منذ إنجاب الولد الأول بالطّلاق، ومازال يفكّر فيه مع كل مشكلة، وهو يشعر أنها لا مبالية حتّى وهي مهدّدة بالطّلاق! كانت محَدِّثتي مصرّة على تحميل الزّوجة كلّ موبقات الخراب، ولم تُلْقِ بالاً إلى أن الأب غائبٌ عن البيت بشكلٍ شبه كامل، بذريعة العمل المضني الذي يوفّر لقمة العيش! وأن موائد الغداء والعشاء بَلْهَ الفطور خالية منه تماماً بحيث بات ظلاً غائباً، حاضراً، والظلُّ لا قيمة له لأنه يشبه السّراب!
حسناً يا عزيزتي، أتعاطف مع المقهور بالخيبة، لكن هناك حقائق لا تضيع بالتّقادم ولا في “الحداثة” أو بإدانة طرف دون آخر، فالمائدة المشتركة يجب ألا تختفي، لأنها ليست مجرد طعام، بل هي إنتاج عبقري لدارة التواصل الروحي بكل أقطابها!