عدتُ سعيدةً إلى رواية مكتوبة للأطفال، قرأتها منذ سنوات وباتت غامضةً بفعل الزّمن، لكنها أبقت ذلك الانطباع الأوّل بالإدهاش وهو من أعادني إليها لأكتشف سرّها الذي غاب عني دون أن ينجلي، كأنها القراءة الأولى !
بسلاسة وتوقُّعات جمّة، كنت أقرأ حتى مرّت بي كلمة “خِلَدة” وعمدَت المترجمة إلى شرحها في الحاشية على أنها جمعُ “خُلْد” الحيوان القاضم الذي يشبه الفأر ويعيش تحت الأرض، وعرفناه بلغتنا الشعبية بأبي عمايا ! كيف فات المترجمة أن جمع هذا المخلوق، ليس من جنسه ككثير من التسميات في لغتنا العربية الفذّة، لأن الجمع هنا هو: مناجذ، أما الخِلَدة فهي جمع قُرْط الذي تتزيّن به النساء! حسناً تاهت المترجمة هنا وفاتها أن الرواية للأطفال، لكن أين المراجَعة والتدقيق والرقابة؟ وماذا عن الكاتب الأصلي الذي لا يعرف العربية وسيفوته أن قوارضه تحولت إلى أقراط زينة؟؟ حين تكرّر هذا السّؤال في خاطري، تدافعت بعدَه تداعياتٌ شتّى عن الترجمة والمترجمين! ففي رواية من أمريكا اللاتينية وجد المترجم أن مشروب “الكوكتيل” اسمه “ذيل الديك”! وفي رواية جزائرية مكتوبة بالفرنسية لم يعثر المترجم المحترف على اسم “وهران” فأوردها “أوران” واللغة الفرنسية ميّزت بين اسم الجزائر البلد الكبير، واسم العاصمة الجزائر فكان واحد منها “آلجي” والآخر “آلجريان” وكذلك فاتت المترجم، وصارت وثيقةً بعد الطبع!
من حكايات الروائيين أن جورج أمادو رفض ترجمة روايته الأولى “بلاد الكرنفال” إلى أي لغةٍ أخرى لأنها تخصُّ شعبه، ويريد أن يرى هذا الشعب نقائصه وتناقضاته ونقاطَ ضعفه وقوّته فيها، حتى استأذنته صديقة إيطالية، بعد سنوات، لترجمتها تحت إشرافه وتقديمها هديّة له بمناسبة عيد ميلاده، وبعدها انتقلت إلى الفرنسية فاللغات الأخرى! استئذان المترجمة للكاتب هو اللافت وليس عيد ميلاده، لأنه كان قد بلغ شهرة كبيرة في أعماله، وبات واثقاً أن الرواية ستوضع في مكانها عند القارئ، ويبدو أن العديد من الكتّاب لا يحظَوْن بمثل هذه النعمة، وقلة منهم يعلمون أين تودي الترجمة بأشعارهم أو قصصهم أو رواياتهم، ولعلّهم لو علموا سيقاضون المترجم، ويسائلونه عما لحق بهم من تشويه أو تحوير أو سوء صياغة! ففي هذا الفضاء الذي تُتَناقل فيه الأفكار بين شعوب الأرض، تبدو مسألة الترجمة عصيّة على الضّبط ولم تبلغ في جوهرها ما بلغته معارك النقاد مع المبدعين من الوضوح، عدا اهتمام دور النشر بمصداقية اسمها، واعتماد مترجمين ذوي معرفة واسعة، ليس بلغة النّقل والمنقول عنه، بل بروح اللغة وثقافتها وأطيافها الإنسانية والمعرفية العميقة، لذلك لمعت أسماء قليلة في إبداع الترجمة، وهي أقلُّ بما لا يُعد، من أسماء الكتّاب الأصليين، فمترجم مبدع واحد يمكن أن يستدعي عشرَ كتّابٍ كبار من لغة واحدة، وهذا هو المأمول من روح الثقافة الإنسانية…