قرأت لضابطٍ سوري أصيب في الميدان في حرب الإجرام علينا:«… وجدتُ في هذا الفضاء الفيسبوكيّ حرباً ضروساً ومتعِبة في بعض حيثياتها، أكثر من حرب الرصاص»! ومثل هذه الحقيقة تستوقف المرءَ مليّاً وحاسّتا السّمْع والبصر تتوفّزان بين أزيز الرّصاص وارتسام الكلمة المكتوبة، تنتظر انطلاق معانيها ومدلولاتها وتأويلها عند قارئها!
تبدو الكلمة المكتوبة شكليّةً، حياديّةً، باردةً، كميزابٍ ملتصق بجدار أو سورِ حديقة مشبّك، بعد أن غادرت أصلها منذ آلاف السّنين، ولعلّ البشرية نسيت معجزة اختراعها للحروف بسبب الاعتياد والاستخدام الضّروريّ المفرِط، وعلى فالق القرون الزمنية التي انقضت منذ بدء استخدام الحروف المكتوبة، صار تعليمها قصديّاً في حدّ ذاته، ومن أجله افتُتحت المدارس وأُعِدّ المعلمون، وضاعت بين هذا وذاك الأصول الفيزيولوجية لهذا الرسم الهندسيّ الدّقيق، كالغضب والفرح والرّضا والتّعب والشّوق والتّوسّل، لأن كتابة كلمة مثل «غضب» تأتي أثناء عاصفة تخضّ البدن من الرّأس حتى القدمين، ويكون التّنفُّس مضطرباً والقلب في خفقان والأطراف خارج السيطرة والعقل مشوّشاً والقرار متسرّعاً والنّدم- ربما- جاهزاً لكنْسِ الخسائر وإعادة ترميم الخراب!
الضّابط تحدّث من خبرة عاشها بكلّ كيانه: الحرب في الميدان، بما فيها الكمائن والغدر والرصد والحصار والقلق وانقطاع التواصل مع الأهل والبرد ونفاد الطعام والرفاق الذين يستشهدون على مقربة من القلب وراء الساتر فلا تقدر الأصابع القابضة على السلاح في وجه العدو الوصولَ إلى جرح الرفيق النازف، وها نحن حين نصف المقاتل في الميدان، نقصّر في فهم مشاعره عبر هذه اللحظات التي عاشها بكل انفعالاتها وقد تبدو لكاتب متمرّس أزمنةً طوالاً تستحق الإضاءة على أدق تفاصيلها بما فيها الإصابة التي بقيت تعيش مع الضابط وهو يطلُّ على عالم آخر فوجئ بفجور أهله ومستخدِميه: هنا العدوُّ متخفٍّ وأسلحته أكثر تنوعاً مهما بدت تافهة وغيرَ ذات قيمة، هنا الكذب والأراجيف والخرافات التي لا يراجعها أحد، هنا التصويب على أي شيء وكل شيء من دون ما يُعرف بشرف القتال! هنا استخدام كل تراث البشرية من شرور الطعن بالحقيقة والعدالة والقيم التي رعتها شعوب الأرض ليكون الإنسان أفضل وأرقى، وهنا أيضاً يصعب الانسحاب على مقاتل عنيد، من ميدانٍ فُتح بالتزامن مع هجوم العصابات على بيوتنا ووجودنا، وها هو يرى جيوشاً وحشوداً من شهود الزّور وذوي الخفة المموّلين من مؤسسات التخريب والهدم المنظّم، فيقول محقاً: إنها حرب ضروس أشدّ من حرب الرصاص، وقيل في تسميات – ليست بريئة أو إنشائية – عن جيوش هذه الحرب: ذباب إلكتروني، ولعل الأدق: البعوض الإلكتروني لشدة شبه الكثير من المواقع المُعادية بالمستنقعات التي تجدد ماءها بعد تلويثه، بكل الطعوم والمغريات التي تخدمها في معاركها وتوقيت هذه المعارك!
نعم يا سيادة الضّابط، بعد الحروب الإعلامية التي خاضها الشرفاء، كتابةً بأقلام كالنصال، نخوض اليوم معارك وسائل التواصل الصعبة بانفلاشها وكثرة أصحاب الأقنعة فيها، حقيقةً ومجازاً، ولا بدّ أن نحذو حذوكم في الميدان وننتصر، وسننتصر.