شرفة الرّوائي

الرواية، دون الفنون الإنسانيّة، مملكة واسعة الأطراف، مفتوحة البوّابات، لا حصون عصيّة فيها على الرّوائي ولا مواطِنَ يلفّها الغموض ولا رعايا محجوبون عن النّظر أو قادرون على العصيان ولا أزمنة تصنع مفارقات انسداد المنافذ أو الأفق! وهي وحدها دون الفنون، من وسّع المكان وطوّع الزمان، لتكمل مراكبُها الإبحارَ حتى تقف على موانئها الأخيرة!
معجزة الرواية أنها تبني مملكتها بهندسة خاصة جداً وتجد، أبداً، جغرافية فسيحة وفريدة لا تزاحمها فيها أبنية عشوائية، بحيث تجلى روائيون كبار عبر تاريخ الأدب الإنسانيّ وما حجب واحدٌ منهم، إشعاع غيره، وكأنهم فلزّات المعادن الثمينة التي ما إن تَملأ العين ببريقها، حتى تُؤسَر ببريق آخر أكثر سحراً، فمن يستطيع أن يقيس فرق القيمة بين تورغنييف وهمنغوي؟ أو بين حنا مينه وماريو فارغاس ليوسا؟ من يستطيع أن يحدّد درجات المتعة الوجدانية بعد قراءة “مفترق مطر” يوسف المحمود و”عصر أنوار” أليخو كاربانتييه؟ وكأن من نِعَم الدنيا أن كل لغات الأرض أبدعت روايات، وأن كلّ الشعوب لها روائيون، وقد تلاقت مياه ينابيعهم الثرّة عبر الترجمة التي لا تعترف باللون والعِرْق والذّائقة، كأنها تلك السّحابة الوجودية، العصيّة على التبدّد!
كلُّ رواية بلا استثناء تحمل صورة الكاتب الشاملة، مستندةً إلى حقبة تاريخية، يظهر فيها الأشخاص والأحداث وتيارات الفكر والصراعات ووجهات النظر التي جعلت من هذا الفن أفضل وأدقَّ وسيلة للتأريخ الخالي من الانفعالات المؤقتة أو العابرة، لكن رغم ذلك، يحصل أن يغلق الرّوائي باب روايته، وبعضهم يمضي عشرين عاماً في كتابتها، مثل رواية “البابا الأخضر” للغواتيمالي ميغيل أنخيل أستورياس، أو “لعبة الكريّات الزجاجيّة” للألماني هيرمان هيسّه، لكنه غالباً ما يقول شيئاً آخر خارج النصّ الروائي، وهو قولٌ هام، يُصنّف في خانة: اقتباسات من أقوال فلان!
يقول تولستوي مثلاً: “… أن نقول هناك عملٌ فنّيّ جيد، لكن لا يفهمه عامة الناس، كأننا نقول هناك أكل جيد جداً، لكن معظم الناس لا يستطيعون أكله!” مثل هذا، قول تولستوي، وعشرات الأقوال لغيره من الروائيين، يترك سؤالاً: لم تتسع الروايات بمساحاتها الهائلة وحرية التجوال فيها ليقول أصحابها ما أرادوا قوله، فقالوه في لقاء صحفي أو مقال أدبي أو ندوة فكرية؟ أم إن الرواية بحدّ ذاتها تترك لأغصانها الوارفة أن تُسقط بعض الأوراق لضرورة ما، ثم نرى هذه الوريقات تتحول إلى نثار من ذهب، يُرصف في مكان آخر، بعيداً عن الرواية قد يُسمى حكمة، أو نصيحة (لكتّاب الرواية الجدد) لكنه في كل حال يشبه شرفةً يخرج إليها الرّوائي على ما يبدو، بعيداً عن ضنى وضْع الحجر الدقيق في مفاصل البناء الروائي المشيّد بمهارة، أو هي ضرورة التنفس بخفّة لسرقة شيء من الأكسجين، ولكم تساقطت من هذه الشرفات أزهار وأوراق ذهبية نحوزها ونفيد منها!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار