في الملل
ثمة أناسٌ يتسلل الملل إلى أنفسهم بسهولةٍ وسرعة، وآخرون يكون من النادر أن يسأموا، وهناك من يكون الحالُ عندهم وسطاً بين هذا وذاك، وثمة أسبابٌ متمايزة ومتنوعة لنشوء أو تشكّل حالة السأم عند المرء، وقد ينشأ من صفاتٍ سلبية ملازمةٍ لشخصٍ أصرَّ على ملازمة آخر وهو لا يني يتجاهل أنهُ شكَّل عبئاً ثقيلاً عليه، مستسهلاً ذلك العبء الذي يقود بدوره إلى أن يصيرَ ملولاً حتى ولو كان قريباً بدرجةٍ كبيرةٍ أو صغيرة، وفي ذلك يقول الشاعر سليم الكلبي:
ومن لم يزل عبئاً يُمَلُّ مكانهُ
وإن كان ذا رحمٍ قريب المناسبِ
وفي موضعٍ آخر يؤكد على الفكرة ذاتها وعلى البحر ذاته ولكن على رويٍّ مختلف آخر، ولعلَّ لذلك دلالةَ تشي بمقدار ما لإلقاء المسؤولية على الآخرين من آثار سلبية:
ويسأمك الأدنى وإن كان مكثراً
إذا لم تزل عبئاً عليه ثقيلا
ولعلّ الإكثار من التزاور وتكراره بشكل متتابع من دون الأخذ بظروف المكان والزمان والأحوال يبعث الطرف الآخر على السأم والملل، وهذا أمرٌ طبيعي جداً يجب أن يكون معلوماً، ومأخوذاً بعين الجدية والحسبان، وفي هذا ما جرى المثل عليه في ثقافة الزيارة، فيقولون: (زرْ خبَّاً تزدْ حُبّاً) وفي الإكثار من الزيارة ما يدعو إلى إضجار الطرف المُزار وتململه، على رأي الشاعر مسلم بن الوليد:
إني كثرتُ عليه في زيارتهِ
فملَّ، والشيءُ مكروهٌ إذا كثرا
قد رابني منه أني لا أزال أرى
في عينهِ قِصَراً عني إذا نظرا
إنه الملل إذاً لا يترك أحداً إلّا ويصيبه مهما حاول ادّعاء غير ذلك، فهو عارضٌ طبيعي يختلف باختلاف دواعيه، وقد يكون سأماً من روتين الحياة العام وتكاليفها وأعبائها ، وإذا كان (من يعش ثمانين حولاً يسأم)، فثمة من فعل باكراً (ولمّا تجاوزت فجر الشباب) ولكلٍّ أسبابه، ولكن ما يدعو إلى عدم القلق هو أن لكلِّ سأمٍ أسباباً هي على الأغلب ليست مجهولة، وبهذا يبطل العجب.
وأحب أن أختم بهذا البيت لعلي بن محمد البسّامي:
دارِ من الناس ملالاتِهم
من لم يدارِ الناس ملّوهُ