ليسوا حتى أرقاماً

بوجهها الشّاحب الذي غدا منذ أيام الحرب الأولى لا يعرف من أدوات التجميل إلا الماء، استقبلتني، وقهوتها لا تنفد، بعد عودتها من العمل، كأنّها طقسٌ ضروريّ من طقوس الصّحو الذي أصابها بعد الحرب! فلا حديث إلا عن الأخبار التي لا تتوقّف: العملاء الذين أسفروا عن وجوهٍ كانت تعرفها عن قرب، القفز إلى ضفّة القتلة يباركونهم وهم يرتكبون الفظاعات، ويسوّقونها انتصارات على الأهل والأطفال كأنهم في حفل تبديل أقنعة، التهجير الطّويل لآمنين كانوا يعيشون حياةً، همومُها طفيفة، الشهداء يزهرون تحت عينيها وكانت تظنُّهم حكايات مرويّة في الكتب التي تحبُّ قراءتها! ومنها كنت أعرف تفاصيل تفوتني من يوميّات هذه الحرب الطويلة التي تشاركنا في أزمنتها، لكننا عشناها كلٌّ بطريقته!
سكبت القهوة الباردة وهي تحدّق في الطّاولة وهزّت رأسها كأنها تعالج فكرة لم تستقرَّ على شكل ناجزٍ تستطيع التعبير عنه، وقد اعتدت منها هذا السّرَحان قبل أن تقول جديداً:- لم يأتوا على ذكرهم! لم يكلّفوا أنفسهم حتى بذكر أعدادهم ولو مجرّد ذكر! في كلّ يوم نعيش واقعةً تصعُب كتابتها بحروف لأنك تشعرين أنها تُكتب بنصال! أتذكّر القصص المصوّرة والأفلام والمسلسلات وتلك الأزياء الغرائبيّة لسلاطين بني عثمان، عمامات هائلة لا أصدّق أن رؤوساً تحملها، ولآلئ مغروزة على أسفلها وأعلاها، وقفاطين سابغة من أقمشة عديدة يكفي الواحد منها لإلباس عائلة وفَرشِ غرفة فسيحة! وما خلا ألبسة الجواري في قصور أولئك السّلاطين التي كانت تجعل الواحدة منهن دميةً تنافس غيرها في عين السّلطان الجشع، مع المهانة اللامحدودة لإنسانيّة الجارية، أتذكّر لباس الإنكشاري الذي ينمّ أيضاً عن ثقافة العثماني المثقلة بمظاهر التفرّد وعُقد النّقص بين الشّعوب، التي صادروا ثرواتها وسرقوا فنونها، وحين تجاوزهم الزّمن لبسوا بالضّرورة ملابس عصريّة لكنها لم تستطع إزالة الطّبع المتأصّل في الشّخصيّة الموروثة من أيّام السّلاطين الغابرة! أرأيتِ كيف استفاق العثماني وهو يبكي على فردوسه الضّائع في بلاد الشّام وبدأ يتذاكى بتكوين جيشٍ من أبناء البلاد على طريقته في سفربرلك؟ وقد أفقنا لنجد بعض عصابات هذا الجيش المدلّل تنزاح من غوطة دمشق وحمص وريفها لتسكن الشّمال بالقرب من السّلطان؟ فقط، حين عيل صبر السلطان من الهزائم المنكرة التي ألحقها به الجيش العربي السّوري الذي لا ينتمي إلى المماليك، نزل إلى ساحة المعركة، وحين امتلأت بجثث قتلاه، رفعهم وكرّمهم وشيّعهم، بينما غاب ذكر العملاء حتى رقماً، لا عدداً!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار