حنين!
خرجت من المصعد في الطابق الثالث على العنوان الذي أعطانيه على الهاتف، لأجده ينتظرني في ردهة باب منزله بابتسامة ودودة, رجل متوسط القامة، ناحل الجسم، في الثمانين أو يزيد قليلاً، يرتدي بزة أنيقة وربطة عنق فاخرة، صافحني بكلتا يديه ودعاني للدخول إلى المنزل. كنت أنقل خطواتي بهدوء وأنا أتلفت بكل الاتجاهات مندهشاً مما أرى.
الجدران مزينة بأيقونات ولوحات فنية منسوجة من الحرير الطبيعي، والممر مزدان على جانبيه بخزائن من الخشب المرصع بالعاج، قبل الوصول إلى الصالون المفروش بأثاث دمشقي خالص.
قلت له مستغرباً، أين أنا، أكاد لا أصدق عينيّ، هل أنا في قصر العظم؟
ضحك الرجل الثمانيني معرّفاً بنفسه قبل أن نهمَّ بالجلوس: أنا “جان شانو” طبيب متقاعد وها هي زوجتي ماري آن.
سيدة سبعينية أنيقة جداً، دخلت علينا حاملة صينية فيها دلة نحاسية تنبعث منها رائحة القهوة بالهيل، وما إن جلسنا حتى بدأت تنهمر علي الأسئلة من كل حدب وصوب: كيف هي دمشق الآن، وقبل أن أجيب على أسئلتهما الملحة، كنت أتوق لمعرفة من عساه يكون هذا الطبيب الكهل، الذي أتى بكل روائع الشام إلى بيته، يعيش معها وكأنها جزء من تاريخه وقطعة من روحه. سألته، وعلى الفور أجابني:
تخرجت في كلية الطب في منتصف الثلاثينيات، وطلبت أن أؤدي خدمتي العسكرية خارج فرنسا، فتم فرزي كطبيب إلى دمشق, هناك تعرفت إلى شعب من أعرق شعوب العالم وأكثرهم أصالة وطيبة وإنسانية, أغلبية المرضى كانوا من أبناء سورية، ومن مختلف المناطق.
كنت أسهر على العناية بهم بالحرص نفسه الذي تفرضه عليَّ أخلاق المهنة ونص القسم, وكان الناس الذين يتماثلون للشفاء يعودون إلى المشفى بيدهم هدايا رمزية تعبيراً عن المودة والامتنان، البعض منها لا يزال معلقاً على جدران المدخل كلوحات منسوجة عن البطل الأسطوري عنترة، أو سور قرآنية مطرزة بخيوط الحرير كما ترى حولك.
عدت إلى فرنسا عام 1940 بعد تمديد خدمتي عدة مرات، وفي نفسي غصة، لكنها زالت، وغمرتني الفرحة عندما قرأت في الصحف آنذاك خبر حصول سورية على استقلالها بعد بضع سنوات من عودتي.
يعزُّ علي كثيراً أنني لم أعد بعد كل تلك السنين لأرى كيف أصبح هذا البلد العزيز على قلبي، والذي قال عنه عالم الآثار الشهير شارل فيرلو، الذي يعود إليه الفضل بفك رموز الأبجدية الأوغاريتية: “لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان، وطنه الأم وسورية”.
أرجوك أن تبقى للغداء معنا اليوم، وسنذهب بعد ذلك فوراً إلى المنزل الذي كنا نرغب بتأجيره، لكنني قررت منذ الآن أن أقدمه لك هدية لمدة ثلاثة شهور كي تنجز رسالتك الجامعية، وأرجو أن تقبلها هدية متواضعة بمثابة تعويض عن الحنين!.