في معرض حضور الذاكرة.. بديع جحجاح لايزال (درويشه) يدور في مناخات الحبق

تشرين- علي الرّاعي:

من (1994) إلى (2024)؛ ثلاثون سنة؛ ذلك ما أمسى من عمر التجربة الإبداعية للفنان التشكيلي بديع جحجاح التي أخذت ملامحها الرئيسة من فضاءات “الدروشة الروحانية الإبداعية” إن صحّ التعبير.. ثلاثون سنة؛ وهو لا يملُّ يُبدع لها ملامح جديدة ومختلفة مع كل عملٍ تشكيليٍّ جديد..

الحنين للفضاءات البعيدة
ملامح هذه التجربة؛ جمعها مؤخراً الفنان جحجاح في معرضٍ تشكيلي في صالة (ألف نون) بدمشق، خلال الاحتفاء ب”الأيام التشكيلية” التي تُقام كل سنة في مثل هذه الأيام، حيث تغص الصالات الفنية بالمعارض التشكيلية في دمشق العاصمة، وفي باقي المحافظات السورية التي تتوفر فيها صالات العرض.
ومعرض الفنان جحجاح هذه المرة يأتي تماماً كعادة الشعراء، عندما يقدمون للم شمل المجموعات الشعرية في كتابٍ واحد تحت عنوان (الأعمال الشعرية)، وهي غير (الأعمال الكاملة) بالتأكيد، ذلك أن الأخيرة تأتي بعد وصول التجربة الإبداعية إلى مرافئها الأخيرة، سواء بانقضاء الأجل، أو بقرارٍ من المبدع نفسه، بينما الأولى تأتي والمبدع في ذروة تألقه الإبداعي، تأتي كنوعٍ من إعادة القراءة في محطات التجربة، وكيف تطورت وتصاعدت، ومن ثم قراءة احتمالات الاتجاهات القادمة.. وربما كنوعٍ من “النستالوجيا” للفضاءات التي تشكلت خلالها هذه الأعمال، أو كما أطلق الفنان على معرضه (حضور الذاكرة)، وقد تكون لنفاد الأعمال – كما في المجموعات الشعرية – ومن ثمّ حفظها في مجلدٍ واحد..

من الباء إلى النون
وفي قراءة الأعمال المعروضة، للفنان بديع جحجاح، والتي وزعها حسب تسلسلها الزمني – إلى حدٍّ كبير – حيث سيلفت المتابع لهذه التجربة الكثير من العلامات الفارقة، وربما “الإرهاصات” لتحلقيها اليوم ومنذ عشرين سنة في مناخات (الدرويش)، ذلك العرفاني الذي يدورُ ويدور في صوفية دائرية بدأت تجسيداً واقعياً ومن ثمّ حتى مآلها إلى رموز مع كلِّ حركة، ومع كلِّ ضربة ريشة، ومع كلِّ انزياحٍ لوني..
أذكر ما سبق؛ وفي ذهني اللوحة، أو العمل الأول الذي بدأ به بديع جحجاح معرضه، وهي لوحة مشغولة بقلم الفحم، أو قلم الرصاص، لوحة لإحدى حارات دمشق القديمة.. لوحة مفعمة بضبابية بعيدة، وثمة خيالٌ لطفلٍ يشقُّ هذه الضباب، يشعُّ من كتفه نورٌ ما.. لوحة هي من الأعمال القديمة للفنان جحجاح، وهي من أعمال العقد الأول في التجربة، أي بين (1994 و 2010)، حيث (2010)، هي السنة التي اهتدى خلالها إلى (الدرويش)، أو اهتداه الدرويش إلى نفسه ودله عليه، ليكون شواغله الإبداعية منذ عشرين سنة..
لكن هنا، وفي قراءة متمعنة في اللوحة التي بدأ بها جحجاح أعماله (المستعادة)، ربما يُمكن لنا أن نقرأ إرهاصات أولى للنزعة العرفانية التي ينوّع فيها اليوم.. وذلك من خلال الإشارات الكثيرة في هذا العمل الفني، أولها مناخات الشام العتيقة التي تستحضر عشرات الصوفيين الذين مروا من هنا، وتأملوا كثيراً في أسواقها وحاراتها، وبنوا الكثير من “التكيّات” والزوايا في أركانها.. وهذا (الصبي) المندهش بعمارتها، صبي يشعُّ من أحد كتفيه نورٌ ما، وكأنه وجد ضالته واتجه صوب باب المعرفة.. ثمّ هذا الاقتصاد والزهد اللوني الذي يتدرج بين الأبيض والأسود.. هذه المناخات التي “سيحنُّ” إليها من خلال تجسيده لأكثر من عمل تشكيلي بالأسود والأبيض، أو بالفحم، وهذا لم نكن نعلم به كمتابعين لهذه التجربة، والتي أظهرها بعملين أو – ربما – ثلاثة في سلسلة لوحات هذا المعرض..

صبيٌّ بكتفٍ من نور
بمعنى “البذرة” أو (الباء) كما أطلق عليها جحجاح، كانت كامنة في أعماقه، وكانت تنتظرُ الاحتضان الطويل تماماً كجنينٍ في رحم، وصولاً إلى “الإنتاش” والتبرعم والظهور، أو وصولاً إلى (النون)، حيث بين الألف والنون تنوعت التجربة في مختلف تدرجاتها وانعطافاتها من التجسيد، وحتى التكثيف بالرمز.
في هذه الأعمال المستعادة أيضاً؛ سيحظى المتلقي بأكثر من لوحةٍ فنية، ربما لم يطلع عليها سابقاً، لاسيما بعدما (انتشر الدرويش)، في تنويعاته الكثيرة، وحمّله كلَّ هذه الرموز والدلالات حتى – أو كاد – أن يسمَ التجربة بكاملها بهذا الدوران الذي لا يتوقف، الدرويش الذي يأتي بالعطاء من تلك الذراع الممدودة إلى السماء، ويزرعُ بالأخرى المتجهة صوب الأرض، وموزعاً الخير والجمال كنبع رقراقٍ لا يهمه من ينهل منه، أو كزهرةٍ فواحة تنشر عطرها لكلِّ من حولها..

تنويعات على الدوران
بعد لوحة (الشام القديمة)؛ سنتفاجأ بأكثر من عملٍ تشكيلي، يتناول (الكتاب والمكتبة)، الكتاب الذي يُعتقه بكلِّ مهابة ألوان التعتيق من أخضر وأزرق وبعض الأصفر، تُعطي للكتاب مناخات “الدروشة” والصوفية هي الأخرى، أو الإيمان عشقاً، بدل أن يكون طقوساً لغاياتٍ نفعية للمرء نفسه، وإنما الإيمان الصرف لوجه الحب الخالص.
وهذه الأعمال تبدو محطات أو ربما استراحات من فضاءات (المولوية)، لكن دون أن يبتعد عنها، فكانت بعض اللوحات البحرية، القادمة من مناخات البحر والصيادين، وكذلك الشجرة – الدرويش، حيث يحار المتلقي من تحوّل إلى الآخر: الدرويش الشجرة، أم الشجرة الدرويش، وكلاهما يدور في فلكٍ واحد من الحب والعطاء.
أقول استراحات، ينوّع في “دوران” آخر أو مختلف، فمناخات البحر، قريبة من هذه الحالة العرفانية التأملية، حيث هذا المدى الواسع من الأزرقين، سماء وبحر، لاسيما من خلال هذه الألوان التي اختارها لهذه الأعمال التي تُعيد للذاكرة، وحتى للمخيلة لأن تستعرض كلَّ تلك “المثولوجيا” المحيطة باللون الأزرق، ابتداءً من “مئزر” العذارء مريم، ولونه النيلي المفعم بمدلولاته، ومروراً بكلّ تدرجات الأزرق واللازورد..

الدرويش الشجرة
من محطات التجربة في هذا المعرض أيضاً، ومن خلال حضور الذاكرة؛ ثمة لوحة – شجرة مشبعة باللون الزهري، شجرة لا كل الشجر، ذلك أنها نابتة وتنمو في مناخات الدوران الجحجاحية، وهي من مجموعة أعمال للفنان في شغله على موضوعة الشجرة.. ذلك أنّ جحجاح عندما يُغير من مناخات الدرويش قليلاً؛ كان يتجه صوب الشجر، فكان أن أصبح الدرويش شجرة في انعطافة جديدة لدرج الدوران.. وكما يذكر: نعم.. عندما أريد الاستراحة من الدرويش، أو عندما يركن هذا الدرويش في داخلي إلى الصمت والضباب؛ يصبح التجلي للدوران شجيرات متناثرة في بستان الحياة، فتارة يُخبرنا السنديان حكايا الجدات، أو يبوح الزيتون بقصص السلام والمجد، وكذلك يخفق قلب الصفصاف عندما يرى العشّاق عند ضفة النهر، وهنا تحضرني الآية الكريمة التي تقول: ” ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلَّ حين بإذن ربها..”..

تحدي المعطى الواحد
فيما تبقى من أعمال في هذا المعرض، فكلها كانت تدور في فلك الدوران، أو في مناخات (درويش – حبق)؛ الشغل الأقرب إلى نفس جحجاح، والذي لا يمل ينوّع عليه منذ سنة (2010)، ولايزال يجد دائماً مساحات إبداعية في هذه الفضاءات لأن يكتشف فيها لتقديم الكثير من الجماليات اللونية.. وما يُميز تجربة الفنان التشكيلي بديع جحجاح في هذا المنحى؛ هو اشتغاله على تحدّي (المُعطى) الذي يكاد يكون واحداً؛ ليكون أساس التجربة التشكيلية بكاملها هذا المشروع الإبداعي الذي عمره اليوم من عمر الحرب على سورية، والذي يسعى صاحبه من خلاله إلى تأصيل رموز صوفية وتوطينها في المحترف السوري. بدأت الفكرة بتمرينات تتعلق بالمولوية أو «رقصة الدراويش» من منظور جمالي، سوف يضعه تدريجياً أمام خيارات روحية أخرى، فانكبَّ على مراجعة النصوص المقدّسة وسرّ الحرف. كما توقّف أمام حرف «النون» في كلمة «دوران»، ثم وصل في بحثه إلى إنجاز مشروع آخر بعنوان «أفلا». حيث يتّكئ المشروع على أربع آيات قرآنية هي «أفلا تعقلون»، و«أفلا تتفكّرون»، و«أفلا تتذكّرون»، و«أفلا يشكرون» مع عبارة من الإنجيل (المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة)..
فللدرويش أو (الجوهر)، كما يطلق عليه؛ ولدورانه هنا حكاية أخرى؛ فقد سعى جحجاح، ومنذ أعماله الأولى لاستعارة المولوية للوصول إلى (حمّام الضوء)، كما سماه، والذي تعكسه أثواب الدراويش البيضاء التي ستُشكّل معادلاً لصفحات حياتنا ومرآتها.. ماذا سجلنا بها، وماذا دونّا، وإلى أين وصلنا من خلالها، ورحلة الإنسان عبر هذا البياض الكلي الذي يبدو تارةً ناصعاً، وطوراً موشحاً، وحيناً لابدّ من بقعٍ حمراء تحتمل هي الأخرى أكثر من تأويل، أو أكثر من انزياح، ذلك أن هذا التحليق له غاية في نهاية التجربة، كما يهدف “الدرويش” المحلق لاتحاد ال “هو” وال “هو” بالسكون والحركة، وذروة التحليق هي الثبات والراحة، والنشوة..
وعلى ما يرى الروائي والناقد خليل صويلح: تشمل هذه الأعمال رؤى بصرية وحروفية مفتوحة على أكثر من مقترح فكري، تجمعها رباعية «الإنسان، والضوء، والحركة، والطاقة» في حركة الدرويش الدائرية حول نفسه، وتماهيه مع حركة الكون، وصولاً إلى التخفّف من سلطان البدن وشهواته وفقاً لما يقول ابن سينا، وتالياً فإنّ السماع هو برزخ العبور. أعمال تقودها مفردة الدوران الأزلي حول الذات أو نقطة المركز بقصد نشر الطاقة المعرفية والبصرية عن طريق الرمز. صورة الدرويش ستتحول شكلاً تجريدياً يختزل مكابدات الجسد في رحلته الدنيوية من «الألف إلى النون».

بقي أن أشير إلى أمر لافت في معارض بديع جحجاح؛ وهو أنه لا يترك اللوحة وحيدة على الجدار، إذ غالباً ما يحوّل المعرض إلى فضاءات الفن (المفاهيمي) التركيبي، وقريباً من “التجهيز”، ذلك أن “دوران” ليس مجرد لوحة، بل هو التركيب الفكري والمعرفي وعبر الموسيقى والرقص التعبيري، ولم يكتفِ هنا باللوحة فقط، بل وبالمنحوتة حيث حضرت مجموعة مختلفة الأحجام من البرونز.. كما وغالباً ما يحضر (الدرويش) نفسه، ليدور في فناء المعرض، وهذه المرة كان أن حضر الدرويش لكن بنسخته الأنثوية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار