سؤال الحداثة في شروط داروينية
تشرين- ادريس هاني:
لا شيء من شؤوننا الحضارية بات مجرّداً، فالحداثة، ذلك السُّؤال الذي لا يزال مفتوحاً أمام أمم وجدت نفسها تاريخياً، ليس فقط في حافة التّأخّر، بل وجدت نفسها في مواجهة شروط تَقدُّم مستحيل، وذلك نتيجة عنصر آخر، يتعلّق بالفصل العنصري، تغريب الحداثة على أسس صراع حضاري يقوم على التمركز الغربي، الذي بموجبه تحوّلت الحداثة إلى موضوع صراع بين الغرب وما وراء البحار.
احتواء الإمبريالية لمكتسبات الحضارة انتهى إلى فرض الاستعمار بكلّ مستوياته وأنماطه على دول الجنوب، لم يعد بعدئذ سؤال الحداثة مفتوحاً إلاّ نظرياً كما الليبرالية والرأسمالية والديمقراطية مفتوحة نظرياً، لكنها عملياً خاضعة لتقسيم الوظيفة بين المركز والهامش، الثنائية القدرية لعالم كلّ ما فيه حتى المؤسسات الدولية، يعزز هذه الثنائية، حتّى فكّ النزاعات الدولية تجري وفق «بارادايم» الثنائية المذكورة. فالسؤال الذي طرحه ماكس فيبر: لماذا لم تنشأ الرأسمالية خارج المجال الغربي، هو يكمن هنا، في العلاقة التي كرّستها مقتضيات وشروط الإمبريالية في العصر الحديث.
في هذا السّياق، تبلورت رؤيتي للحداثة، باعتبارها سؤالاً مفتوحاً ومشروعاً عند التّواصف، لكنه سؤال ممتنع عند التناصف. واقتضى الأمر إذاً أن أنحت الثنائية الجدلية بين حداثة السادة وحداثة العبيد، وهي وحدها تضعنا في جوهر مفهوم الصراع، حضاريّاً وطبقيّاً، فالمركز المهيمن، يتولّى وظيفة السيطرة، التحكم في الدّورة الاقتصادية العالمية، التحكم في ثروات الأمم، وبالتّالي وضع سقف محدد وقواعد معينة لتنميتها في أفق التّبعية، وهو ما يقتضي ضبط سقف سيادتها في الحقبة النيو- كولونيالية وعصر النيو- بروتيكتورا، واخضاع خططها لسياسة الرّقابة المنهجية لصندوق النقد الدّولي والبنك الدّولي وأحياناً الرقابة والإملاءات المباشرة للدول.
إنّ الحداثة المتاحة للعالم الثالث تمنح الدول مساحة للمنافسة والتفوق داخل المنظومة التّابعة، أي تقسيم الحظوظ والرّتب داخل منظومة الهامش، المخصص دورها إمبريالياً لتكميل اقتصاديات المركز. وكما في المركز مراتب في الاقتدار والسيطرة، فكذلك الأمر متاح في الهامش، حيث يحيلنا مفهوم المحاور الجيو- ستراتيجية إلى مفهوم عبيد المنزل الذين يتمتّعون بامتيازات تفوق امتيازات عبيد الحقل. ففي المركز نفسه هناك تراتبيات وامتيازات متنوعّة.
يسعى المركز إلى احتكار امتيازات الحداثة الفائقة، يصبح التهديد قائماً متى فكرت إحدى دول الهامش أن تتقدّم ناحية المركز وتخطّي المدى المتاح أمام تنمية الجنوب. هنا يصبح الصراع على مركز الحداثة لا على الحداثة بالمعنى المتاح.
إنّ التقسيم الإمبريالي للعمل لا يسمح بالخروج من الحداثة، بل التحديث مطلب إمبريالي لإدخال العالم في دورة الاستغلال الحديث، وهذا يقتضي أن يكون الهامش حداثياً بشروط التبعية، حيث لا تقوم حداثة مركزية من دون هامش حداثي.
في صلب سؤال الحداثة اليوم يختفي سؤال التّحرر، حيث يعمل المركز الحداثي في إعادة نَظْم العالم على أسس جديدة من العبودية الفائقة، عصر عبودي بأساليب متطورة.
ليست الحداثة وحدها هي ما يجب مقاربته من هذا المنظور (حداثة السادة وحداثة العبيد) بل أيضاً وجب تصنيف التراث على القاعدة نفسها: تراث السادة وتراث العبيد. فالقصة إذاً تدور مدار العدل والتحرر. بل وضعنا في العالمين العربي والإسلامي يفسر أسباب هذا الهدر والاستنزاف الكبير للتفكير فيما لا جدوى من التفكير فيه سواء أتيح أو امتنع، أنتج ذلك ضعفاً في طريقة تواصنا مع الواقع وتصالحنا مع الأسئلة الجوهرية التي يفرضها وضعنا التّاريخي. حتى الآن انتهينا إلى منتصف الطريق، عبيد الحداثة في شروط تنازعنا على مرتبة عبيد المنزل، وعبيد تراث يسهّل علينا التموضع في شروط حداثة عبيد أدنى، أصبحنا «حمّالة حطب» في جيدنا حبل من مقولات تهرّأت وتقادمت.
أي معنى لحداثة العبيد؟
هنا أريد أن أوضح مصاديق العبودية في جدل المركز والهامش الحداثيين. السؤال المغلوط الذي يعتبر أنّ سؤال الحداثة بسيط غير مركّب، وبأنّ التحديث في شروط الهامش تحرر الأمم الثالثية من التّأخّر، هو سؤال بالفعل مغشوش، لأنّه ينطلق من وعي غير م
كتمل بالسؤال الجوهري للحداثة باعتبارها ثورة تحررية وإطلاق للعقل وتحرر لِلْمَلَكَات.
إنّ الإمبريالية تسعى لإعادة تشكيل الذهن البشري، من خلال حربها على المعنى. إنّها في هذه الحرب الحضارية الحارقة تسعى إلى هدم المقولات المُؤَسِّسة، حيث الفصل العنصري للمركز يسعى لوضع شروط أمام النشاط الذهني لابن الجنوب، حيث طرائق الاستنتاج يجب أن تتغير، فيما كان الجنوب يعتبره عدلاً أو عقلانية أو إنسانية، فهذه قواعد تفكير وقيم عيش تتعلق بالمركز لا بالجنوب. الرسالة المبطّنة في حروب الإبادة والصمت المطبق للنظام الدولي، إنّما غايته إقناع ابن الجنوب بأنّ لا شيء مشتركاً في قوة المنطق، بل إنّ المحدد هنا هو منطق القوة والغلبة، والمغلوب وجب أن يكفّ عن الاستنتاج وفق المنطق العام، فلا يوجد منطق عام، يجب أن تُفكّر وفق شروط الهامش ومنطق الهامش، أي أن تكون استنتاجاتك المنطقية تخضع لمقولة الخضوع للغالب. تسعى الإمبريالية عبر هذا «الخاووس» العنيف من اللاّمعنى إلى تقسيم الدماغ إلى دماغ سادة ودماغ عبيد، أي تقتضي شروط السيطرة المطلقة أن لا يفكّر ابن الجنوب ابتداء من اليوم بالطريقة التي يفكر بها ابن المركز، فهذا ذهن السيطرة وذاك ذهن الخضوع.
في هذه المعركة ذات النزعة الدّاروينية، يبدو سؤال الحداثة في شروط منظومة القهر، سؤالاً غير بريء، وغير متاح خارج تأكيد السيطرة والاستيلاب القهري في نظام السيطرة. ويبدو أنّ الحروب القادمة هي ذات غاية تربوية، تهدف إلى كَيِّ الدّماغ البشري في الجنوب، إعادة تشكيل الطبيعة البشرية في الهامش، هذا النمط من التفكير الذي يتربّى عليه الجنوب بفعل الضغط وحروب الإخضاع، ينتهك الفكرة الكلاسيكية عن المساواة والمشترك الإنساني. إنّ الإمبريالية تخشى من الطبيعة، من الدّماغ البشري حتى حينما يكون في شروط انهيار حضاري ما، لكنها اليوم تسعى للحسم في الفصل العنصري على مستوى التفكير، ذلك ما سمّيناه بالتّآمر الإمبريالي على الدّماغ البشري.