الجهل المكتنز.. ظهر المقتول وتمزّقت خرائف شتّى
تشرين- ادريس هاني:
-الاستخفاف بالذهن البشري متواصل، هذا يقتضي أن تصبح سلطة الخطاب لأقلِّ أحياء البيداء العربية، انقلاباً جذرياً في بنية الخطاب، في المُرسل والمتلقّي المفترض، لقد انتهى الزمن الجميل للجُمل المفيدة.
- وفي الوقت الذي نرى بأنّه لا منجى لهذا الانهيار الذّهني سوى تمثّل العبر- مناهجية بوصفها تدكّ التخوم المفتعلة بين حقول المعرف، هناك ما يفيد أنّ هناك ما يؤسس لبهلوانية منهجية، أنتجت خبراء في الإستراتيجيا لا يحسنون المشي على الرّصيف، وخبراء في السياسة لم يكونوا كشّافة، وخبراء في التّاريخ خلطوا بين الأحاجي وعلم التّاريخ، وخبراء مستقبليات لا يحسنون قيادة الدراجة الهوائية، وخبراء في الجغرافيا لم يغادروا حاراتهم إلّا لِماماً.. إنّه عصر الجهل المُكّب والدّجل المكتنز.
- لمن لا يحسن فنّ القتال، يجهل أنّ الضربة القاضية لا تكون كذلك حتى يتم الحساب حدّ العشرة، لكن الحَكَم الحصيف حَسَب حدَّ الواحد وقام المضروب واستعادة القدرة على المبادرة، في أغلب الأحيان يكون هذا الأخير مؤهّلاً ليسدد الضربة القاضية للخصم، غير العارفين بالذكاء الحربي هم من يرقصون للضربة الأولى وينسون الجولات الأخرى، وإذا قام المضروب واستعاد لياقته، أصيبوا بخيبة أمل ورفضوا التسليم بالواقع والوقائع. هذا تماماً ما يحدث اليوم في الشّرق الأوسط.
- ظهور قاآني استفزّ البروباغاندا التي تسخر منّا وهي تلوذ بصبيب هائل من السرديات المضحكة، لقد حسموا بكل خيلاء بأنّ الرجل قُتل ثم أكثروا في السرديات المتخيلة، وقالوا إنّه يحاكم على الخيانة، نتفهّم دور الكراهية في صناعة الخبر، لكنّنا نملك الحق في مواجهة الاستحمار والاستبغال، حفاظاً على المعنى وحُرمة العقل البشري، لقد كنا واثقين من أن لحظة التشقلب آتية، حيث ظهر الرجل في مراسم استقبال جثمان عباس نيلفروشان مسؤول ملف لبنان في فيلق القدس الذي قضّى بالضاحية، لم تكن صدمة لصناع السرديات الصبيانية، بل كانت ضربة موجعة لأشداق حكواتيي البروباغندا التي تستخف بالعالم، غاب الرجل الذي كان في مهمّة، ولأنّه في وضع أمني حسّاس، نجح في أن يجعل «الحيّاحة» ينكشون تحت التراب ليكذب سرديتهم، فكان لظهوره رسالتان:
الأولى : أنّ بلداً في غمار حرب مع عتات الإمبراطوريات ليس متفرّغاً للجواب على تساؤلات استفزازية لسنافير الميديا المُستَحْقِرة للرأي العام.
الثانية: صفعة هوائية لمن يظنون أنّهم مستوعبون لما يجري في الدّاخل، ضمن حرب نفسية يتولاّها موظفون صغار وكبار، حين يتعلق الأمر بدولة، فالغبيّ وحده من يعتقد أنّه على إلمام تامّ بما يجري، وإنّ الكراهية المشروعة في الصراع لا تعفينا من تحقيق الخبر.
المثال الذي ضربناه، هو نموذج فقط، فأن يقتل هذا أو ذاك في ذروة المعركة، ليس غير متوقع، لكن لِمَ الكذب؟ وستحاول البروباغاندا الالتفاف على هذه الصدمة، لكن عبثاً.
- وتستمر الحرب النفسية على امتداد البيداء العربية، وبدل أن يذهبوا ويعالجوا ضربة الشّدق بالدواء الأزرق، أصبحوا محللين للصورة، في ضرب من السيميولوجيا البلهاء، والانقلاب البهلواني على تقاريرهم في أكثر من وسيلة إخبارية، وذلك بدعوى أنّ هيئته كانت تدل على عدم الارتياح، وهو ما لم نره قط، بل في خبرتنا التي تتجاوز خبرتهم، أنّه لم يظهر الرجل بوضعية أوثق في النفس كما ظهر في تلك اللّقطة.
- إنّ الحديث عن الاختراق بالخيانة هو جزء من حرب نفسية، حيث المسألة تتعلّق بخرق تقني واضح جدّا لمن لا يبغيها في التحليل عِوَجا، وما اختفاؤهم الذي أصاب الاحتلال باضطراب، إلّا موقف ارتدادي على سياسة الاستهداف، كان الاحتلال يسعى لاستهداف قائد الفيلق، لكنه فشل، وهو لم يكن يعرف في أي مهمّة كان، في الضاحية أم العراق أم اليمن أم.. أم..، ولمّ لا في غزّة، إنّ سُعار الاحتلال كان يقتضي هذا الشكل من السرديات التي تسعى لنشر الإحباط، ومن هناك أزعجهم امتلاك المقاومة للمبادرة، وأنّ كل الأحجيات الواثقة من نفسها باتت في مَكَبِّ المعلومات الفاسدة.
- في سياق حرب ضروس، يكون ضحايا الزّيف هم الأكثرية، نتابع تلك الخرائف المضحكة، وتلك المغالطات التي تتساقط كأوراق الخريف، لكن من يجهل مفهوم المخاطرة والمخاطر، يجهل كيف أنّها ظاهرة تطورت في بداية العصر الحديث: الشك، التنسيب، الاحتمال..
التعامل مع المخاطر كما لو كانت نهاية العالم، هو موقف كلاسيكي تجاوزته الحداثة، منذ انبرى ديكارت في شكّه المنهجي، منذ انبرى دي ثيربانتس في أسطورة دون كيخوت، منذ انبرى باسكال لحساب الاحتمال.. يكتب ألريش بيك في مجتمع المخاطر عن كون الفرصة والمخاطر ذوات أهمية في عصر التحول إلى الصناعة، ضارباً مثال دان كيخوت وأيضاً ظهور حساب الاحتمالات لكونه محاولة للتحكم فيما ليس متوقّعاً.
الحكم القياسي على الأحداث في العصر الحديث والتقنية الفائقة، تبسيط للواقع في طور تاريخي مشحون بالاحتمال، ثمة استغلال لمتلقٍّ لا زال يتعامل مع الظواهر بلغة الفزع، هناك من لا يفرق بين الكدح لتحقيق الخبر وبين النّصب والاحتيال بالأخبار، دائماً هناك مخاطر، ودائماً تكمن العبقرية في تجاوزها واحتوائها في شروط دقيقة، لقد تشقلبت كل السرديات المُتذاكية، وستنبئ الأيام القادمة بمفاجآت، لأنّ الواقع يتحرّك بمنطق الفعل الحقيقي وليس بالأحقاد وتصفية الحسابات وواجب أداء وظيفة الزّيف، هناك شيء سيظلّ هو الأهم: معرفة الأحداث كما هي، لكي نعرف كيف نحلل على بيّنة لا كما يريد موظفو البروباغاندا أن نحلل.
- إنّ ما يفوق الهزيمة نفسها هو عبقرية صناعة السرديات المضلّلة، وإنّ الثقة في النفس عند استعراض الخرائف لا يعني بالضرورة أنّها مقنعة، إنّ المغالطة لا تستطيع الرقص فوق الرّؤوس أكثر مما يتيحه الزّمن الموضوعي للتّفاهة.
- مكتوب لهذه المعركة أن ينتصر فيها أبناء الأرض، لأنّها معركة مقاومة على الأرض وفي الأرض، فالاحتلال مهما فتك بالمدنيين، لن ينهي فكرة المقاومة، لن تنفع البروباغاوندا وهي تقلب الحقائق، وتجعل من المحتل مَلَكاً بريئاً لا يفعل سوى الدفاع عن نفسه، بينما يُشيطن المقاومة بلا هوادة كما لو أنّها دخيلة على تاريخ التحرر الوطني، إنّهم يتحدّثون كما لو لم يكن هناك احتلال.
- ما يقوله مجاذيب الأمة لا أوزاغها، أنّ منسوب الدجل في سرديات البروباغاندا كبير، وفيه استخفاف بالرأي العام، بل استخفاف مرضي بمن يصدقون هذه الماكينة المتخصصة في صناعة الخرائف، هو منسوب فاض عن الحدّ وفيه توريط للعالم، أمّا بيئة المقاومة فهي تزداد احتقاناً على هذا الدجل المكتنز.
كاتب من المغرب العربي