هل تكفي الاعترافات الأوروبية لتحقيق الدولة الفلسطينية؟.. ولماذا على الفلسطينيين الاكتفاء بالتأثير من دون المطالبة بالالزام؟
تشرين – د. رحيم هادي الشمخي:
من دون التقليل من أهمية الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية (وآخرها سلوفينيا التي أعلنت الخميس الماضي عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية بعد أيام قليلة من الاعتراف الرسمي لكل من إسبانيا والنرويج وإيرلندا).. من دون التقليل من أهمية ذلك على مسار القضية الفلسطينية (كحقوق ودولة) إلا أن جملة أسئلة لابد أن تبرز في كل مرة، مفادها: هل تكفي هذه الاعترافات لقيام الدولة الفلسطينية؟، هل لها تأثير حقيقي، أم هي جزء من عملية تأثير دولية كاملة؟، بمعنى مسار ضغوط دولية (يتقدم فيها الشعبي على السياسي)؟.. علماً أن أغلب عملية الضغوط الدولية تنصب على الجانب الفلسطيني أكثر منه على الكيان الإسرائيلي حتى في مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتي لا تخلو من مطالب وشروط، للجانب الفلسطيني في سبيل ذلك، لكن هذا الأمر لا يكاد يظهر إلا في حالات نادرة جداً، حيث إن الإعلام في أغلبه يركز على الجوانب الإيجابية من دون تظهير لما يجري في الكواليس، أو ما يمارسه الموفدون الغربيون من ضغوط (ومن تهديدات) وراء الأبواب المغلقة.
مع ذلك فإنه، وبأي حال، لا أحد ينكر الجوانب الإيجابية لمسار الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية خصوصاً في الوقت الحالي، حيث إن جبهة غزة توفر فرصة حقيقية لتحقيق هذا الهدف، أياً كان ما يُقال في خلفيات وأهداف تلك الاعترافات.
عطفاً على التساؤلات السابقة وتوضيحاً لها، تبرز أيضاً تساؤلات أخرى مفادها : أليس كل ما يجري على الأرض يتناسب عكساً مع مسار الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية؟.. ألا تعطي الولايات المتحدة الأميركية، الكيان الإسرائيلي، كامل الوقت لتدمير قطاع غزة وتشريد أهله، أي استنزافه بالوقت والتدمير، وصولاً إلى حالة فرض وقائع (إسرائيلية) على الأرض يكون لها التأثير الأكبر في أي عملية تسوية، أو أي مسار لتحقيق الدولة الفلسطينية؟
حتى بالنسبة لخطاب الرئيس الأميركي جو بايدن مساء أمس الجمعة، وإعلانه عن مقترح جديد لإنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والمستمر منذ ثمانية أشهر على حصيلة مفتوحة بعشرات آلاف الشهداء والجرحى والمشردين. ألم يخلُ هذا الخطاب- المقترح، من أي حالة إلزام للكيان الإسرائيلي.. أليست أميركا وحدها من يملك إمكانية إلزامه بالجنوح نحو إنهاء عدوانه؟
لكن أميركا لا تفعل، وما دامت لا تفعل، فإن أي فعل دولي باتجاه إنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أو باتجاه إقامة الدولة الفلطسينية، هو فعل يدخل في إطار التأثير وليس في إطار الالزام. التأثير أمر، والالزام أمر آخر. وللتوضيح فإن التأثير أمر مهم جداً، خصوصاً إذا ما اتخذ مساراً تراكمياً، ولكن عندما نتحدث عن قضية مثل القضية الفلسطينية وعن صراع مثل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، مستمر من أكثر من سبعة عقود، ويؤثر اضطرابات وحروباً على عموم منطقة الشرق الأوسط، وعالمياً تالياً.. عندها يجب أن نتحدث عن إلزام وليس عن تأثير. التأثير هنا يغدو بلا قيمة، فكيف إذا ما كنا نتحدث عن جبهة مشتعلة بتداعيات مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات، بما فيه التوسع باتجاه حرب كبرى.
الأمر نفسه المتعلق بالاعترافات الدولية، ينسحب على ردود الفعل «الإيجابية» من مقترح بايدن (رغم أنه اقتراح عام، بخطوط عريضة مطاطة، إضافة إلى كونه غير ملزم للكيان الإسرائيلي).. ما فائدة الترحيب بمقترح بايدن، ودعوة الكيان إلى القبول به؟.. عملياً لا فائدة تذكر، وها هو الكيان يرد مباشرة على المقترح بإعادة شروطه وبأنه لن ينهي عدوانه على القطاع إلا بتحقيق كامل أهدافه، أي القضاء على حركة حماس واستعادة المخطوفين، علماً أن هذه الشروط باتت اليوم أوسع وأخطر إذا ما أخذنا بالاعتبار مسار «اليوم التالي» خصوصاً فيما يخص رفح ومعبرها، وخصوصاً أكثر ما بعد سيطرة جيش الكيان الإسرائيلي على معبر رفح/ صلاح الدين (محور فيلادلفيا).. أما المخططات الأميركية التي يتم تسريبها إعلامياً (بصورة متعمدة ومدروسة) فهذه حكاية أخرى.. حكاية تنقض كل ما هو معلن أميركياً، بما فيها مقترح بايدن.. وحكاية تنقض كل مسار دولي بخصوص الاعترافات بالدولة الفلسطينية، لأنه كل ما يجري عملياً على الأرض يُعاكس تماماً كل ذلك، كما ذكرنا آنفاً.
إذاً، ما العمل، وأي مسار يمكن أن يؤثر في الميدان ويضع عملية إنهاء العدوان، وتحقيق الدولة الفلسطينية، على نقطة الانطلاق؟
الجواب يتركز في اتجاه واحد، وهو المقاومة، فما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة. عبارة أو قانون نذكر أننا تربينا عليه منذ كنا صغاراً وهو خاص بفلسطين وحدها، تربينا عليه في أسرنا وفي مدارسنا وجامعاتنا. وحتى عندما جنح العرب (والفلسطينيون) باتجاه التفاوض، بقي هذا القانون متصدراً، فالتفاوض أثبت في كل مرحلة، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، عدم جدواه، بل إن خسائر الشعب الفلسطيني كانت أكبر، واستمر سفك الدم الفلسطيني أنهاراً على يد الكيان الإسرائيلي.. واستمرت أميركا في استهداف قضايا الحل النهائي بصورة دائمة، بدءاً من القدس، إلى اللاجئين، إلى الحدود، إلى إقامة الدولة الفلسطينية، وما بين هذه القضايا كان المستوطنون يزدادون وحشية، في هجماتهم وفي استفزازاتهم ضد المقدسات الفلسطينية والعربية.
وهكذا وبعد عقود التفاوض، عدنا إلى خيار المقاومة، وقانون ما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة. وهكذا كان شأن عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي، وشأن جبهات الإسناد. اليوم لم تعد الكلمة العليا في الميدان لكيان العدوان، ولم تعد 99 بالمئة من أوراق اللعبة بيد الأميركي. ولأن المبادرة والانطلاقة كانت بيد الفلسطينين والمقاومة (تماماً كما كانت المبادرة بيد العرب في حرب تشرين 1973) فإن الكيان ومعه أميركا (والعكس صحيح أيضاً) لن ينهي عدوانه، وأميركا أكثر من يسنده في ذلك عسكرياً وفي المحافل الدولية. لن ينهي عدوانه حتى يقضي تماماً على مسألة المبادرة وحتى لا يتكرر يوم 7 تشرين الأول (الأمر نفسه قالوه في أعقاب حرب تشرين وعملوا عليه طيلة العقود الماضية).. والدولة الفلسطينية لن تتحقق لأن الأميركي أكثر من يقف ضدها، حتى لو اعترف العالم كله بها.
لذلك فإن كل ما يقدمه، وسيقدمه، الأميركي من مقترحات وخطط يقول إنها لإنهاء العدوان وتحقيق الدولة الفلسطينية هي خطط خلبية هدفها الأساسي إعطاء الكيان الإسرائيلي كامل الوقت، لتحويل قطاع غزة إلى ركام، وإغراق أهله في مجاعة لا تنفك إلا باستسلامهم.. ومن ثم فرض شروطه باتجاه تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، وهذا غير خاف، فالكيان يعلنه بصورة يومية.
هذا ما يريده الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي.. لذلك فإن الرد عليه لا يكون إلا بالمقاومة.. المقاومة فقط.
كاتب وأكاديمي عراقي