علم السياسية.. هل من منطق يصونه من الخطأ؟
بقلم: إدريس هاني:
غالباً ما يكافح المثقف ضدّ عوامل اليأس وخيبات الأمل من السياسة، لجزمه المسبق بفضيلتها من حيث موضوع علمها وغايتها في مرتبة المِلاك، مهما شطّ بها الرّعاع الذين كان علمها ممنوعاً عليهم من ذي قبل، فهو يدرك الفلسفة التي قامت أوّل مرّة لتدبير المدينة، تماماً كالحاجة إلى تدبير العقل والنّفس، لا غنى عن السياسة حتى في الاجتماع الحيواني، ثمة تدبير واستقرار وأهداف يقوم عليها كلّ اجتماع بشري وغير بشري، فقط يتجلّى الامتياز البشري ها هنا في كونه مجالاً لتحقق الإرادة الحرّة، للتعاقد الاجتماعي، لذلك المزيج بين تدبير النفس والعقل والمدينة، وحده الاجتماع البشري الذي يبدو غير مستقرّ، أعني في بنيته السياسية الهشّة، لأنّ في الاجتماع الحيواني ليست هناك حاجة للرّقابة والعقاب والمحاكم الجنائية.
وحده الاجتماع السياسي البشري الذي يختلّ فيه النظام العام، وتنهار فيه السياسات، الإنسان كائن غير سياسي، لأنّه مرتهن للقهر، والكائن السياسي بقيد التضليل، كائن سياسي محتال، ليست قواعد السياسة أو علمها من يحمي المدينة، ذلك لأنّ علم السياسة لا تعصم السياسة من الخطأ، بل تمكن التضليل من أن يبلغ محِلَّه.
الخطورة اليوم قائمة، حين يُصبح السياسي مناهضاً للمثقف، لأنّ سياسة من دون ثقافة، هي الطريق الأسهل لتهريب السياسة ونزع الضمير، سياسة مقطوعة عن ملاكات السياسة ومقاصدها، وهذا ما آلت إليه السياسة، في زمن انهارت فيه مفاهيمها، وماتت الأحزاب السياسية، بعد أن اختزلت وظيفتها في أهداف جماعات المصالح.
يدرك المثقف السياسة من الأهداف التي يرسمها علمها، لكنه يواجه الإحباط، حين تصبح السياسة خداعاً وتضليلاً وتكراراً فاحشاً وسطحياً لمعانيها التي نشأت لإسناد قيام المدينة لا خرابها، لقد خرجت السياسة وعلمها من معطف المثقف، وليست من حذاء المهرولين، لأنّ عنوان السياسة هو المصلحة العامة وليست المصلحة الخاصّة، إنّ السياسة انقلبت على معناها الأصلي، وعلى قواعدها، مذ باتت علماً منزوع الحصانة، يستوي في تملّكه الحكيم والقرصان.
يتم توظيف علم السياسة اليوم في تقويض الوعي، السياسة في خدمة الدّجل والتدجيل، سياسة تحتل وظيفة تدبير تضليلي للعقل نفسه، وعدوُّها هو المثقف، لأنّ محترف التضليل يحاول أن يعتمر قبعة المثقف في تمرير الديماغوجية.
لقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن خدعة التعالُم والموضوعانية، كتشغيب على العقل وتهرُّب من المحاسبة واستغلال قصور الدّماغ وجهل المتلقّي، شكل من النصب والاحتيال على الضمير ، يقوم به من ميزتهم الوحيدة هو الاستنزال التضليلي للمفاهيم من مكنز علم لم يضيفوا إليه معنى أو مفهوماً، فوجب على المثقف أن يعيد إنتاج علم السياسة على أرضية منطقية جديدة تصونه من الاستغلال والخطأ.
وجب ألا يُترك علم السياسة في برّية الاستغلال، لا يُترك وحده خارج إطار عبر-مناهجية تحمي قواعده من الاستغلال، وتصله بعلوم اجتماعية أخرى، ولم لا، بالعلوم الدقيقة من حيث ما جهله “متعالم السياسة” غفلته عن فكرة توماس هوبز، بأنّ ما من شيء إلاّ وينحلّ في النهاية إلى علاقة فحساب، إنّ إخراج السياسة وقضاياها من مدرك الدّالة الرياضية، يجعل السياسي الجاهل بالرياضيات، يخلط بين المخرجات والمدخلات، بين الثابت والمتحوّل، اعورار في دراسة الدّول، وجهل فاحش في تدبير العلاقات.
يحتاج إذاً متعلم السياسة إلى فلقة يغلي منها دماغه، ليتحقق الكوجيطو السياسي، لانطلاق فلسفة جديدة للتعلم، أولى قواعدها: احترام السياسة باعتبارها أنبل اختصاص، لأنّ بها تقوم فضائل السياسة. ثانيها: ربطه ربطاً مناهجياً بالعلوم، أليس أفلاطون صاحب الجمهورية طارد الشعراء وجالب المهندسين؟ ثالثها: تجريم المغالطة السياسية باعتبارها عدواناً على النّاس جميعا، رابعها: حماية المستهلك للخطاب، عبر إجراءات صارمة، بناء على وجوب سلامة الذهن واستقراره، وهو من أهداف سياسة المدينة، التي تحمي المجتمع من الوباء الذّهني والذُّبانية السيبرانية، والامتهان السياسوي التّضليلي.
كاتب من المغرب العربي