أيهما يخدم أميركا أكثر؛ حرب في الشرق الأوسط أم حرب مع الصين؟
تشرين- د. رحيم هادي الشمخي:
رغم أن الحديث – حالياً – عن أي مسألة أخرى لا تتعلق بالشرق الأوسط، يبدو حديثاً غير جاذب وقد لا يحظى بالاهتمام، إلّا أنه لا يمكن التغاضي عما يجري في مناطق أخرى هي مرشحة أيضاً لتكون ساحة لحرب عالمية جديدة، صحيح أن الشرق الأوسط بتطوراته المتسارعة والمتفجرة بصورة تخيف الجميع يأخذ جلَّ التركيز العالمي، إلّا أن هناك تطورات في مناطق أخرى – وإن كانت تسير بصورة وفق قاعدة ضبط النفس والاحتواء حتى الآن – قد تنفجر بأي لحظة وبما لا يُحمد عقباه خصوصاً وأن الولايات المتحدة الأميركية تشكل طرفاً أساسياً فيها سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ولن يجد القارئ صعوبة في فهم أننا نتحدث عن ثلاث مناطق: أوكرانيا، بحر الصين الجنوبي، وفي دول حدودية مع إيران، حيث تسعى أميركا أيضاً «والكيان الإسرائيلي» إلى التأسيس لموطئ قدم، وتوسيعه بما يضمن محاصرة إيران، أو بصورة أدق، بما يضمن امتلاك جغرافيا قريبة /معادية/ تكون منطلقاً لشل قوة إيران وقدراتها، وهذا هدف بات ملحاً جداً- كما يبدو- ما بعد ليلة الأحد الماضي، أي ليلة الرد الإيراني على العدوان الإسرائيلي الذي استهدف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع نيسان الجاري، حتى يمكننا القول إنه تقدم في الأولويات الأميركية، لكونه رداً أعجز أميركا، أي أنه شلّ قدرتها على الفعل «رد الفعل» وبما أصاب مقتلاً هيبتها في المنطقة والعالم.
مع ذلك، لا يمكن لأميركا أن تغفل عن المناطق الأخرى، وإن كانت الصين ما زالت هدفاً رئيساً. أياً يكن ما يجري في الشرق الأوسط من تطورات ورغم أن المخاوف تبلغ أوجها حالياً من إمكانية اندلاع حرب إقليمية تتوسع عالمياً، إلّا أن أميركا لا يمكن أن تشيح بنظرها عن الصين. ربما تعتقد واشنطن أنه ما زال بإمكانها حتى الآن ورغم كل ما حدث وسيحدث، ما زال بإمكانها أن تضبط مسار الأحداث بعيداً عن الحرب الموسعة، معتمدة في ذلك على أطراف في المنطقة، وعلى قاعدة أن هذه الحرب لا تخدم أحداً.
هذا عدا عن أن أميركا ربما لا تجد في الشرق الأوسط خطراً داهماً – وجودياً على زعامتها العالمية بعكس الصين، حتى مع إمكانية اندلاع حرب موسعة في الشرق الأوسط . أميركا تعتقد أنها قادرة على إدارة هذه الحرب الموسعة، بل والفوز فيها، فما زالت تمتلك العديد من أوراق القوة.. أما فيما يخص الصين فهي لا تزال بحاجة إلى امتلاك أوراق قوة أكثر فاعلية.
بكل الأحوال، ورغم المقارنة والمفاضلة، ورغم التخطيط والتدبير، إلّا أنّ الصدام المباشر لا بدّ أن يقع، تستطيع أميركا تأخيره لكنها لا تستطيع منعه، أو أنها تريد وقوعه ولكن بعد اكتمال خريطة التحالفات /العسكرية بالدرجة الأولى/ التي توسعها مع دول المنطقة، وأحدثها فيتنام.
لكن ماذا عن الشرق الأوسط؟ هل تقع حرب إقليمية أم لا، وما دور أميركا فيها؟
هذه الأسئلة تقود إلى سؤال أهم.. أيهما يخدم الولايات المتحدة أكثر، الحرب في الشرق الأوسط أم الحرب مع الصين؟
اعتقد أن الجواب مرتبط بمستويين: الأول هو القدرة على شن الحرب، والثاني هو القدرة على الفوز فيها. تستطيع الولايات المتحدة شن أو افتعال حرب في الشرق الأوسط مع احتمالات كبيرة للفوز فيها، لكنها لا تستطيع الأمر نفسه مع الصين حتى بوجود تايوان التي تعد الورقة الأهم بيد أميركا بمواجهة الصين، لكن أميركا تحتاج للفوز على الصين أكثر من حاجتها للفوز في الشرق الأوسط. فعلياً يُعد الشرق الأوسط منطقة نفوذ أميركية منذ قرن من الزمان، وهو ما زال كذلك رغم ما يشهده من انزياحات إقليمية كبرى أثرت مباشرة على النفوذ الأميركي وجعلته أضعف، ولكنه ما زال قوياً لناحية إمكانية الفعل أو بعبارة أدق لناحية أوراق القوة التي ما زالت بيد أميركا والتي لا تزال من خلالها قادرة على اللعب والفوز في عدة مواضع، وهي هنا تستفيد بالدرجة الأولى من التناقضات الصارخة والخلافات التاريخية المزمنة التي تجعل المنطقة دائماً برميل بارود يمكن أن ينفجر بأي لحظة. والولايات المتحدة بخبرتها على مدى قرن من الزمن في التعامل مع المنطقة وتناقضاتها وخلافاتها فهي لا تزال حتى الآن قادرة على إدارة خيوطها وإن كانت هذه العملية باتت أكثر صعوبة خلال العقدين الماضيين مع بروز الصين كعملاق اقتصادي غير قابل للردع أو الاحتواء، ومع عودة روسيا (وريثة السوفييتية) إلى ساحة الفعل والتأثير العالمي.
حتى الآن تجيد الولايات المتحدة لعبة «الشد والرخي» إذا جاز لنا استعمال الكلمة العامية الثانية. وحتى الآن تجيد الصين لعبة التظاهر بأن كل الأمور طبيعية، من دون أن تتفاعل بحدة مع توسع التحركات الأميركية في الجغرافيا الإقليمية والبحرية الأقرب. ما زالت الصين تكتفي بالتصريحات المنددة والتحذير من خطورة هذه التحركات (وإن كان هذا لا يلغي أنها تشعر بقلق متصاعد). ولكن في الوقت ذاته يمكن وضع العديد من التحركات الصينية في إطار الرد على التحركات الأميركية، خصوصاً عندما نرى العلاقات الصينية مع روسيا من جهة، وكوريا الديمقراطية من جهة ثانية، في أقوى مستوياتها. ولا يخفى أن الصين تريد من خلال ذلك تشكيل قوة موازية موازنة لما تقوم به أميركا.
وفي إطار سياسة «الشد والرخي» نلاحظ كيف سارعت واشنطن إلى إرسال أحد كبار مسؤوليها الدبلوماسيين، دانييل كريتنبرينك، إلى بكين، مباشرة بعد القمة الثلاثية الأخيرة، والأخطر حتى الآن، والتي جمعت الولايات المتحدة واليابان والفيلبين، وخلالها تعهدت واشنطن بالدفاع عن مانيلا في نزاعها مع الصين حول جزر في بحر الصين الجنوبي.
القمة، وكما هو متوقع، أثارت رداً غاضباً من الصين، فيما قال كريتنبرينك إن مهمته هي الابقاء على خط الاتصال مع بكين.
زيارة كريتنبرينك سبقها، يوم الثلاثاء الماضي، اتصال هاتفي (فيديو) مطول، بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن ونظيره الصيني دونغ جون. عقب الاتصال قال دونغ جون: يجب على جيشي الصين والولايات المتحدة إيلاء أهمية قصوى للسلام والاستقرار وإيجاد سبل للتعايش على أساس الثقة، مشدداً على وجوب عدم انتهاك المصالح الأساسية للصين.
فيما أوضحت وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» أن أوستن شدد على أهمية الاستمرار في فتح خطوط الاتصال العسكري، وفي الوقت نفسه ستواصل أميركا الطيران والإبحار والعمل في المنطقة، حيث يسمح القانون الدولي بذلك.
وفي الخامس من نيسان الجاري عقد مسؤولون عسكريون أميركيون وصينيون اجتماعاً لمدة يومين في مدينة هونولولو في هاواي، وقبله بيومين أكد الرئيس الأميركي في اتصال هاتفي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ أنّ الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام في الصين أو خوض حرب باردة جديدة معها أو تعزيز تحالفات ضدها، «ولا ننسى هنا زيارة جانيت يلين وزير الخزانة الأميركية المطولة إلى الصين والتي استغرقت طوال الأسبوع الماضي وهي الزيارة الثانية المطولة لها خلال هذا العام».
لكن هذا الكلام – أي كلام بايدن – تنقضه بصورة كلية القمة الثلاثية آنفة الذكر. لنأخذ فقط تصريحات الرئيس الفيلبيني فرديناند ماركوس جونيور التي أكدت أنّ هذه القمة «ستغير الآليات في المنطقة، في رابطة آسيان، وحول بحر الصين الجنوبي». يضاف إلى ذلك تأكيد القمة على ما سمته «مخاوف جدية بشأن السلوك الخطير والعدواني» للصين في بحر الصين الجنوبي.
وإذا ما أضفنا كل ذلك إلى مساعي واشنطن المستمرة لتوسيع تحالف «أوكوس2021» الموقع بين أميركا وبريطانيا واستراليا، ليضم اليابان أيضاً، فإنّ الصين لا بدّ أن تشعر بالمزيد من القلق، وبما يدفعها لإجراء من نوع ما، وليس الاكتفاء بالتصريحات فقط.. وقد يكون هذا ما تنتظره أميركا لتبني عليه مزيداً من التصعيد في المنطقة.
بكل الأحوال، قد لا يجوز استباق الأحداث. فعلياً ليس من السهولة التنبؤ بأفعال الصين وهي التي تعتمد سياسة شديدة الخصوصية، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة. وكما قلنا بداية، في مسألة الحروب الموسعة هناك أكثر من منطقة مرشحة لتكون ميدانها، هذا الأمر تحدده التطورات المفاجئة أكثر من المحططات والمسارات المرسومة مسبقاً.
أكاديمي وكاتب عراقي