ملاحظات شقشقية…
تشرين – ادريس هاني:
– تستفحل وضعية عالم، خاصيته الوحيدة أنّه اكتسب مهارات كبيرة للتّأقلم مع بيئة تتدانى في أُنوستها ومعقولها، تبدو المعركة ضدّ التّفاهة من أنبل أشكال الكفاح والصمود في وجه المحق التوتاليتاري للمعنى، وبينما يستمر المعنى محنّطاً يفرض شكلاً مبهماً من مستويات المعقول، حيث تداني النّباهة يمنح سلطة الإجماع للتّفاهة، فإنّ مصائر الوعي مفتوحة على شروط نضالية مختلفة في نموذجها ونمطها.. إنّ الانحطاط عام، يصيب كل المستويات، ولا يمكن استعادة المعنى بالوسائل الكلاسيكية نفسها.
– معركة الوعي ليست كما يعتقد من يستسهل أساليب النّضال بالمراسلة، هي ليست عويلاً ولا رقصة مطر ولا لعبة التكرار، بل هي مهمّة تاريخية ينهض بها أولو العزم ممن أدركوا قعر خوابي المعقول، وتقلبوا في مدارك المعنى وتخوم المفاهيم ومنازل القلق، ومهما استسهل تيار الزّيف لعبة ركوب أمواج القضايا، تدانياً بها إلى قعر الانحطاط، ففي مجال الوعي يمكن التلبيس على عوام الخلق وبكماواتها، ولكن يظلّ الرّاصد النبيه صامداً في برج المراقبة، يحصي تلصّص المزيفين وخداعهم.
– يمكن الكذب على السياسة وحتى على الفن، لكن لا مجال للكذب على الفلسفة، لأنّها هي من يستعيد مجد الحقيقة والفن والسياسة من يد سرّاق الله والتاريخ، وأمام قولها العتيد فقط تخنس أبالسة الزّيف، بل كل بهلوان أراد أن يكذب على الفلسفة، سقط بموجب تاريخها ومفهماتها واستدراجاتها، تلك هي معركة المثقف الأخيرة.
– اليوم يعربد الاحتلال، ويحصد ما تبقّى من براعم غزة وشيوخها، وثمة ما يؤكد أنّ أهم قيمة في العالم تنهار بسبب تشبّث الامبريالية باحتلال لم يعد قادراً على حماية نفسه من دون أن يرجّ البنية الأنطولوجية للعالم، نحو وضعية عالم أكثر كدورة من سائر عصوره، من الأهم اليوم: الاحتلال أم مصير الإنسانية؟ أجابت الامبريالية بالأمس واليوم: الاحتلال أهم، فإذن إلى الجحيم.
– كشفت جرائم الحرب تلك أنّ من قام بالواجب تضامنا مع غزّة، هو «محور الشّر»”، لكن هناك من لا يريد أن يرى تلك الحقيقة، البعض يترنّح يميناً، والبعض شمالاً، والبعض يهرب إلى الأمام باعترافات خجولة، البعض يتحدّث من بعيد ويرسم أحجيات حول عالم يفيض بالنّار، كنت أعرف أنّ التاريخ كفيل بأن يجعل العناد سينطح الباب المسدود، ما يتوقعه المغرضون من سيناريوهات ليست هي تاريخ المستقبل، إنّنا في مرحلة تدعو للشّفقة، أما الكذب على التاريخ وعلى الإنسان وعلى الله، فكلها حكاية وقت بدل الضائع، إنّه الكيد مخلوط بالغباء.
– غادرنا رجل وطني كبير، سي بنسعيد آيت يدر، رجل كفاح وطني، من مؤسسي الكتلة الوطنية، حضرت وقائع مؤتمرها الصحفي قبل 30 عاماً، واستبشرت كما استبشر كل من حضر بقيمة هذا المكون الجديد، مع رجالات يصيبك رحيلهم بالرعب، لأنّهم مع وزنهم السياسي وتاريخهم لم يحصلوا – يوم كان أميناً عاماً لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي- إلاّ على مقعد واحد، وكذا في البدء حال الأمين العام التّقدمي علي يعتة، ومع ذلك كان المقعد الواحد يفوق في قيمته الرمزية كومبارس من السياسوية سيتركون المشهد اليوم لمن يتبجح بأن الله منحهم الأغلبية لما صدقوا بعد أن كادت تتخطفهم الغيلان، كما لو كانوا من أهل الكهف أو أصحاب الأخدود، في تلبيس إبليس واستهتار بالمفاهيم اللاّهوتية في خطاب شعبوي ضحل، لخطاب خلو من فكر لافت وفقه قاصد، لكنها السياسوية زمن الشعبوية، خطاب فيه من الضحك على الذقون ما يخفي أُواليات التصفيق السياسي «من الصّفقات» والهندسة الانتخابولوجية، من هو المتلقي المفترض لهذا النوع من الخطاب اللاّمسؤول والمستغبي لأهل الرّأي؟ رحم الله سي بنسعيد آيت يدر، فقد مارس السياسة بكل أبعادها منذ مرحلة الكفاح الوطني، وغادر وهو لا يملك شيئاً سوى ثروة رمزية واحترام فائق من النّاس لم يحض به من أصبح يتنورس على الأمّة في الوقت بدل الضائع، ويفتخرون بأنهم أجهزوا على سياسة الدّعم التي أنقذت البلاد والعباد، هل هو علم السياسة أم فيلم هندي؟
العزاء بات مُضاعفاً، لقد ووري جثمان الفقيد بمقبرة الشهداء بالبيضاء، ولولا وعكة ألمّت بي لحضرت مراسيم الدفن.. رحمه الله.
– مقتضى حسن النية، استقبال أي مبادرة خارج منطق الإسقاط، لكن المؤشرات تكذب المدعى، فالانفتاح والشفافية والحوار مع كل المكونات، من يتفق ومن لا يتفق، تكذبه لعبة الانتقال، لتبقى الأسئلة:
* هل حضر الفاعلون المعنيون بالخطاب الحركي وشؤونه، من أهل الرأي؟
* إن كان الحديث عن إنتاج أفكار، فما هذه الأفكار، وما الجديد اللافت؟
* إن كنا سننفتح على ما كنا نعيبه على الجماعات، كما لو أنه جزء من خطاب قديم، فما فائدة النّقاش، أي الاعتراف؟
* إنّ كانت كلّ مبادرة هي تقليد يراد منه لفت الأنظار، فالفارق بين عصر الكاريزما وعصر الخمول كبير، المتغير التعويضي عن الكاريزما هو ركوب الحدث العظيم: طوفان غزة وقبل أن تضع الحرب أوزارها.
* إن لم يكن هناك ما يفيد القطيعة، فما القيمة المعرفية والسياسية والتاريخية لفعل التجدد؟
الاختبار الأهم، الانفتاح على أوسع مدى، وعدم الانتقاء والاكتفاء بذلك التكرار المشهدي، الانفتاح على من يدركون أنّ جزءاً من ذلك الالتباس مما أشرنا إليه تباعاً، الانفتاح ولمَ لا المشاركة، وكذلك استدخال المفاهيم التي باشرنا بها ذلك النقد منذ الثمانينيات، حيث كان البعد الحضاري غائباً عن خطاب الجماعات، وهو من مشروعاتنا الرئيسية التي باتت تستعمل عفو الخاطر من دون اعتراف، فلمَ الانغلاق، ولمَ الحديث عن الشفافية بعد ذلك؟
-ما زالت الكراهية والعدوان والانغلاق سمة أساسية، مهما طال لسان التبرير والتدليس، هو مشكل تربوي، التسامح بأدلّة الإسقاط والنميمة والخيال.. إنّ سوء النية والإحسان لا يلتقيان، وهذا نقد بنّاء جدّي لمن شاء أن يتذكّر.
– يكاد يكون الأمر لافتاً، إذ لا يمر يوم من دون أن تتناقل وسائل الإعلام والوسائط أخباراً عن ألكسندر دوغين، ورأيه في الأحداث الراهنة واستشراف ما لم يحدث بعد، وهذا في الواقع يثير عندي العديد من الاستفهامات، دوغين الفيلسوف، الذي لن يفهمه سوى نظرائه، ثقافة حقيقية تمتاح من فلسفات حقيقية، «وياما قلنا» إنّ موقع المثقف في معادلة الصراع، معيار لمدى قوة الأمة، والأمة الروسية احترمت مثقفيها وفلاسفتها، وأصبح تقليداً أن نتباهى بتقاسم فتوحات دوغين في السياسة وصدام الثقافات ومصير النظام العالمي.
وحينما في المقابل، يستهين السياسي في بيئتنا العربية بالمثقف، وربما أهمل رأيه، ولربما أقعدوه بوقاحة ونذالة في نهاية الصفوف إمعاناً في الاستهتار والإهانة، ولم يلتفتوا إلى رأيه، ولربما حسبوه واحداً من الآراء التي تتناقلها إنشائيات الحرافيش، فحين يكون وضع المثقف صانع المفاهيم، هذه هي وضعيته في البيئة العربية، يصبح هذا الاهتمام بفيلسوف روسي تقليداً أعمى، ككل المواقف السياسوية المصحوبة بالضغائن والحسابات الفارغة.. إنّ الديكتاتورية مفسدة للرأي، واستهتار بالعقل، وعدوان صارخ، أين هذا من: أكرم العلماء.
يمكن أن يستفاد من وراء موقف دوغين وفكره، ما هو جوهري، كيف تعاملت روسيا مع مثقفيها؟ كيف جعلت من أحد الهيدغيريين السولافيين منظاراً لرصد ما هو استراتيجي وبعيد في مدارك الجيوستراتيجيا الأنطولوجية التي لا تحضر فيما يزف يومياً من جوابات دوغين؟ فالمباني الفلسفية لدوغين تشرح أشياء ليست غريبة على مثقف عربي محترف وفيلسوف طاعن في صناعة المفاهيم، المشكلة هي حقاً مشكلة الفاعل السياسي مع المثقف، لأنّه يلعب على الموجات القصيرة، والأوتار الخفيضة، ولا يكتفي بذلك، بل يحاول عناداً استبعاد المثقف الحقيقي أو جعله جزءاً من كومبارس، حيث في هذا الاستبعاد تكمن فضيحة اللعبة السياسوية غير المحترفة، لا مستقبل لهذه الأمّة مهما انتفخت أوداجها وعلا صخبها، إن هي أخطأت الموازين، وأقعدت مثقفيها وعلماءها حيث لا ينبغي لمقامهم، هناك سيلعنهم التاريخ والمنصفون ممن يراقبون المشهد من قريب أو بعيد.