المعركة في طور الالتباس.. حذارٍ من الاختزال
تشرين- ادريس هاني:
ما زال العنوان الأبرز في معارك غزة هو المقاومة، فهي وحدها ضامن لعملية تحفيز الإرادة الدولية، لوجود حلّ فوري لمسلسل الإبادة، التي فشلت محكمة العدل الدولية في احتوائها ضمن موادها الصريحة وقانونها الأساسي المُجرِّم للإبادة الجماعية، فلقد اتضح أنّ المحكمة نفسها تتحدّث عن مجرد تُهم مزعومة، بينما الاحتلال دخل في لعبة تأويل المواد، ما يؤكّد أنّ ثمة عقبات تجعل المحكمة عاجزة عن تحقيق العدالة الجنائية:
إن معركة إثبات الاختصاص لا تُغني عن ملحمة التأويل الفجّ للمواد، وهو ما قام به الاحتلال في زواريب مواد القانون الأساسي، كتأويله لمفهوم الإبادة والجماعة واختصاص النازلة بالقانون الدولي الإنساني وليس بالإبادة الجماعية، وإقحام إكراهات حرب المدن كمبرر لحتمية قتل المدنيين، مع أنّ المجازر التي حلّت بأهالي غزة، ناتجة عن استعمال القوة الجوية المفرطة وعدم التناسب في القوة، وفي المرحلة الثالثة وأقصاها هناك المناورة التي يحتفظ بها حلفاء الاحتلال عند صيرورة التنفيذ، وربما كان ذكاء قانونياً من الفريق الجنوب إفريقي أن يترافع في محكمة العدل، وعدم المراهنة على الجنائية بعد فصول من الخلاف بين جنوب إفريقيا والجنائية، لا سيما في موضوع عدم تعاون جنوب إفريقيا بخصوص عمر البشير يومها.
إنّ تركيبة القانون الدولي ومؤسساته ممتنعة عن إدانة الاحتلال، فهي جاءت لتحمي بنية العلاقات الامبريالية الموروثة عن الحرب العالمية الثانية، والاحتلال يقع في سياقها وشروطها وأهدافها.
في مقابل كلّ ذلك، فلسان المحكمة وما جاء في نصّ المرافعة ونصّ الحكم، يتضمن ما من شأنه الاعتراف بالاحتلال، وهذا الاعتراف هو طبيعي من المحكمة، لكنه يصدر عن الطرف الآخر عند التقاضي من دون شعور، طبقاً للقاعدة المنطقية القاضية بأن ثبوت الحكم على الشيء هو فرع لثبوت المثبت له، وهذا ما يحصل اليوم، حيث في ذروة الصراع وجب تصعيد الحذر، وقد تمّ اختزال النازلة في ما يقع من إبادة ضدّ الساكنة، حيث وجب تعاون الاحتلال مع القرار الدولي، الاحتلال هنا كـ«دولة»، لاحتواء الأزمة، فتجزئة الملف قد تدخل ضمن المناورات التي يتيحها الإمكان في مسرح القانون الدولي، لكنه مثل مضاد حيوي له أضرار جانبية يجب لا نستهين بها.. إنّ بنية نص الحكم تعزز اعترافاً ضمنياً بشرعية «دولة» الاحتلال، هذا مع أنّ محاولات كثيرة جرت خلال السنوات السابقة لربط محتوى القضية الفلسطينية بقضية الآبرتهايد ونموذج جنوب إفريقيا، البلد الذي كافح كفاحاً مريراً لنيل حقوقه ومناهضة التمييز العنصري، ولم يحصل أن تمّ النقاش بشكل إيجابي حول هذه الإشكالية، حيث الربط بين الاحتلال والآبرتهايد له آثار أخرى، وهو شبيه بالربط بين الشيء ولازمه، فالتمييز العنصري ليس هو جوهر النزاع في فلسطين، بل هو لازمة للاحتلال، فالتمييز قد يحصل داخل الدولة نفسها تجاه مجموعات معينة، لكن المشكلة في فلسطين هي مركبة، جوهرها الاحتلال والإحلال، ولقد قلنا منذ سنوات إن لا فكاك بين الشيء ولازمه، بين الشيء وما هو ذاتيّ له، لا فكاك بين المشمش والمشمشية بتعبير ابن سينا، لقد توصلت جنوب إفريقيا إلى حلّ وسط، بناءً على صفقة، سقفها هو المشاركة والتعايش مع البيض الذين هم في الأصل مستوطنون، وتقويض أحكام التمييز العنصري.
وقامت جنوب إفريقيا بمبادرة مهمّة، لا يمكن أن تقوم بها أي دولة أخرى في العالم من دون أن تنال عقاباً مباشراً أو غير مباشر، فالوضع الاستثنائي لجنوب إفريقيا سمح لها بذلك، وكانت النتيجة السلبية من محكمة العدل الدولية متوقّعة، لكنها حرّكت المسطرة الجنائية ضد الاحتلال ليس بوصفه احتلالاً، بل بوصفه ارتكب جريمة إبادة، وسيعمل الاحتلال على احتواء جنوب إفريقيا من خلال مناورات مركّبة في القادم من الأيام، لا سيما إذا استطاعت أن تفعل كما تفعل دائماً بأنّ معاداة السامية تساوي الآبرتهايد، ولا أستطيع أن أضمن مدى قوة الأقطار الإفريقية على استيعاب طبيعة المعركة وجوهر الأزمة، مهما بدا التفاعل كبيراً، ما لم يحصل نقاش تفصيلي في البيت التحرري، ومن هنا وجب تحصين الموقف والمرجعية الجنوب إفريقية من أي اختراق يأتي من الغرب بخصوص ما يحصل اليوم في الشرق الأوسط.
أمام هذا الوضع الذي يمكن أن يفيد في إظهار هشاشة الوضع الدولي، وجب ضبط المفاهيم في معادلة الصراع، يتعلق الأمر هنا بالأراضي المحتلة باحتلال إسرائيلي، وحيث يوجد الاحتلال يوجد التمييز والإبادة وسائر الجرائم ضد الإنسان، فالإبادة بدأت منذ 1948، وهي ليست جديدة، ولا يمكن أن تنتهي بالتقادم.
لا قيمة لأي محاولة لإدانة الاحتلال، إذا لم تُسندها المقاومة بعمليات نوعية، وفي هذا الإطار تكون كل المبادرات مفيدة، ما لم تفرض تغييراً في مفاهيم المعركة، وتخترق الوعي بمعجم ألفاظ ملتبس، حيث إنّ المواقف السياسية والقانونية تبدو ضعيفة ما لم تنعشها حركة المقاومة.
وفي هذا الإطار، هناك مطالب استعجالية لتحصين جنوب إفريقيا وتمكينها من الثقافة السياسية للمقاومة الفلسط..ـينية، والوعي التاريخي بالأزمة، ويتعين على هذا البلد المناهض للتمييز ألا يقع في القياس المفارق، وعليه أن يقف على معضلة الاصطلاح والرؤية الشمولية للصراع، بمعنى آخر إنّ التمييز العنصري في الأراضي المحتلة هو نتيجة ضمن نتائج كثيرة لوجود الاحتلال، وأنّ الغاية ليست هي وقف التمييز، بل المطلوب وقف الاحتلال هذا من ناحية، من ناحية أخرى هناك محاولات منذ «صفقة الحلّ» في جنوب إفريقيا، وهي استمرار العلاقات التجارية بين الاحتلال وجنوب إفريقيا، استغلها الاحتلال في مزيد من التمدد داخل القارة، داخل النسيج الخدماتي والأمني بالنسبة للدول الأضعف، واستطاعت «طوفان الأقصى» أن تؤكد لجنوب إفريقيا على أهمية وقف العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال، لأنّها اعتراف بالاحتلال، وهي خطوة مهمّة وإن كان سقفها غير واضح، لأنّ الاحتلال أقدر على المناورات السياسية والتغلغل في قطاعات شتّى، فالعلاقة بين دولة مرجعيتها مناهضة التمييز العنصري وبين الاحتلال سابقاً، تتطلب دراسة وافيّة وشاملة، وأيضاً ما يضمن عدم الرجوع إلى الوضع السابق من العلاقات السياسية والاقتصادية، وهذا يعني أنّه من الضروري فتح نقاش بنّاء لمساعدة جنوب إفريقيا على موقف استراتيجي لا يقف عند البروباغندا السياسية، الشيء الذي لم يحصل حتى الآن.
لكن ما يبدو مخيفاً في المستقبل، هو استغلال الغرب لجنوب إفريقيا في مخطط «باء»، القاضي بحلّ «إسراطين»، ضمن الصفقة إياها، وتقديم جنوب إفريقيا نموذجاً للحل في الأراضي المحتلة، وهنا مكمن الخطر، مثل هذا الدور قد يُمنح لجنوب إفريقيا ليس حظوة لها، بل استدراج قد لا يكون على قدر من الوعي بمآلاته، لكنه مطلوب لإخراج المنطقة من حالة اليأس، خصوصاً أنّ الحرب الأخيرة أنذرت بدفن حل الدولتين، ولم يبق من صفقة جديدة غير اختزال القضية في تمييز عنصري وتجريم حكومة وليس دولة احتلال بما هي احتلال، العنوان الذي اختفى من كل النصوص المتداولة في المرافعة الأخيرة، لذلك يجب وضع مبادرة جنوب إفريقيا في سياق تقويض مصداقية محكمة العدل والكشف عن ازدواجية المعايير الدولية وليس في سياق حل القضية الفلسط..ـينية، لأنّ الحسم هو بالغ التعقيد، وحدها المقاومة تفرض شروطها التاريخية.
ما الحل إذن؟
كل المناورات السياسية والقانونية مفيدة إذا وضعت في سياق استراتيجي، وليس اختزالاً مطلبيّاً تتمحور حوله آراؤنا وعواطفنا.. فلا شيء يؤمّن اليقظة الكافية حيال ذلك كله غير المقاومة، وحماية المعجم الاصطلاحي للكفاح التحرري لفلسـ..ـطين التّاريخية، للمطلب التحرري الوطني، وتقويض كل محاولات اختراق الوعي والسياسات، وتجنّب الانفعالات وعدم القابلية للوقوع في مناورات لعبة الأمم الخادعة.
الاحتلال الذي لا يمكنه إلا أن يخوض حرب إبادة، هو اليوم أسفر عن حقيقته كلّها، وبات يشكل حرجاً للأمم الغربية في علاقة دولها مع مجتمعاتها، حيث هناك انهيار في المصداقية التي ينهض عليها ميثاق تلك الدول مع مجتمعاتها، ضمن عقد اجتماعي يقضي باحترام حقوق الإنسان، حيث تجاوز تأثير الاحتلال المنطقة ليصبح تهديداً للعقد الاجتماعي الغربي، فالزمن لم يعد في مصلحة الاحتلال، والبحث للاحتلال عن مخارج وفق أنصاف الحلول، يعيد الوضع إلى حالته الأولى، كما تستند الدول في تعزيز قوتها ونفوذها على عامل المسرحة، والاحتلال أيضاً يبحث عن دور في هذه المسرحة.. إنّ تضحيات الشعب الفلسطـ..ـيني تقتضي مخرجات أكبر من مطالب اختزالية، تلك المطالب التي يجب أخذها بعين الاعتبار، لكن ليس المراهنة الاستراتيجية عليها، لأنّ الخطر القادم يأتي من الاختزال، و«فرم» الملف المطلبي التاريخي لفلسط..ـين، والسعي إلى تقويض الموقف التاريخي الذي تفرضه المقاومة بصمودها، وما تتيحه من عناصر لرفد أي تفاوض مرحلي، الذي لن يطيق الأمد الطويل للمعركة، هو كيان احتلالي يعيش تناقضات سياسية واجتماعية، وهو لا يتحمّل هزيمة واحدة، فاليوم وجب أن تكون مخرجات الكفاح الوطني الفلسـ..ـطيني في مستوى العمل النوعي للمقاومة، ويتعين ألا يكون هناك طريق آخر لمحتوى أوسلو، لأنّ العبرة بالمضمون لا بالطريقة.
اليوم وخلافاً لما سعى الاحتلال ورُعاته لتفاديه، اتسعت دائرة المواجهة، وكان ذلك منتظراً، لأنّ الاستفراد بغزة أصبح مستحيلاً بعد الشروط الجديدة التي فرضتها المقاومة في مختلف الساحات، وبموجبها تغيرت قواعد الاشتباك التقليدية الموروثة عن زمن الهزائم، لقد كلفت الحرب على غزة الغرب ثمناً باهضاً، لأنّها كانت أعنف عملية في سياق هشاشة النظام العالمي، ما يجعلها ضمن المقدّمات الأساسية للتحول الدولي والنظام العالمي الجديد، إذا ما استمرّ الصمود والحذر من العناوين التي تهدف إلى إعادة إنتاج «أوسلو» بأساليب أخرى، أي عدم الاستهانة بمعركة الوعي الكبرى، حيث الحرب امتداد لها بكيفية أخرى.
كاتب من المغرب