دوزنة معايير العالم
كان الثمن كبيراً وفادحاً .. الكثير من الدم الفلسطيني.. حتى يقتنع العالم ويضع (اسرائيل) في قفص الاتهام ..يقول أحدهم: لم ينتظر الفلسطيني لحظة حقيقة أكثر سطوعاً ووضوحاً ولمعاناً من هذه اللحظة.. كيان الاحتلال في مرمى العدالة لعالم فقد توازنه..
بحثت في الكثير من الأخبار والمواقع والقنوات، فالحدث جلل، والتفاعل معه لا بدّ من أن يكون بحجم أكثر من خمسة وسبعين عاماً من المذبحة والتهجير والبطش، فكانت لحظة غزّة، وقد جيء بها جثماناً مدمى، مفرط الوضوح، ومفرط الصوت الذي أصمّ الآذان.. أقرأ في أحد التعليقات..كان لا بدّ للدم الفلسطيني أن يكون فوّاراً حتى تُستعاد دوزنة معايير العالم من جديد، واضحة وصارمة أمام القتلة والمجرمين، بعد أن همدت هذه المعايير إلى مستويات الصفر والنوم والغياب، وباتت فكرة تهجير شعب كامل ونفيه، بل والقضاء عليه، متاحةً وممكنة في ظلّ صمت غير مفهوم، وانعدام حيلة لم يذهب إليها أحد في تاريخ البشرية كلّها.
في مقالة أخرى كتب أحدهم: “إمعان الدول في توحُّشها دليلٌ على بدء نكوصها وهزيمتها وأفولها”.
لقد استدعى الإنسان الفلسطيني، وعلى مدار تاريخه الطويل من النضال ضدّ الاحتلال، الكثير من المفاهيم المؤسِّسة من جنوب إفريقيا، بالنظر إلى التجربة النضالية الثرية ضدّ الاستعمار والفصل العنصري والإسكات التام، استدعاء يصل إلى حدّ الإلهام والمرجعية في النضال الشعبي والقانوني ضدّ أعتى أشكال الاستعمار الحديث، الذي لم يتوقّف عن اختراع وابتكار أصناف المعاناة للمعذَّبين تحت جنازير دباباته وأنياب جرّافته.
أشعر وسط هذا الكمّ الهائل من مشاهد وأهوال تهشّم صورة القانون الدولي والشرائع الدولية وحقوق الإنسان بشكل لا يقبل التأويل، رداءة من يهتفون بصوته ومن ينشدون آلامه في كلّ محفل من محافل العالم، واكتشف من جملة ما اكتشف كيف انهار القانون الدولي وتلطّخ وجهُه في الطين تحت وقع الصواريخ العمياء التي ضربت في كلّ مكان.
نعم أتفق معكم ..استيقظ العالم على كذبة رديئة طال ترديدها اسمها الإنسانية، ليكتشف أنّ الإنسانية محض اختراع أبيض، بارد وانتقائي ومقيت، يُصار إلى التغنّي بها حين تكون الضحية بيضاء، وغربية، وابنة عمّ الأمم المتحدة، سليلة تقسيمة العالم بُعيد الحرب العالمية الثانية. واكتشف على كومة ما اكتشف “تاريخ الكذب”، لا على طريقة جاك دريدا في تفكيك المفهوم واستعادة الأصول، بل على طريقة حاملي صوت العالم في الكذب وغضّ الطرف وازدواجية المعايير المعيبة والمضحكة في ذات الوقت.
جنوب إفريقيا حملت صوت الضحايا بكلّ ما فيه من صرخات ورعب ودم، وحلّقت به بعيداً إلى محاكم العالم، كان التمثيل الإفريقي الجنوبي جديراً باللحظة، وجديراً بتمثيلها، وجديراً بأن يأخذ صوتها، لطالما كان الإفريقي في رحلة عذابه الطويلة مقاتلاً نقيّاً لا يستسلم ليأس اللحظة ولا مغريات الطريق ولا للأصوات التي تهتف له ليجلس جانباً أو يتراجع.