ملف «تشرين».. لا تخلو من الفساد.. ومهمة الكشف عنه مسؤولية الجهات الرقابية والتفتيشية.. مجالس الإدارة المحلية تنأى بنفسها عن المجتمع المحلي
تشرين- صفاء إسماعيل:
في ظل الغياب المتعمّد للتشاركية مدفوعاً بتغليب أصحاب المجالس المحلية سياسة النأي بالنفس عن الهموم المعيشية والخدمية، بات المجتمع المحلي في واد والمجالس المحلية المنتخبة في واد آخر، ولم يبق من الثقة الشعبية التي أوصلت المرشحين للمجالس المحلية، سوى الوعود البرّاقة التي كلما استذكرها المنتخبون، على وجع، رسموا على وجوههم ضحكة صفراء، وقالوا بقهر: “ماحدا بيتعلم إلا من كيسه”.
رغم أن المنطق وقانون الإدارة المحلية، الذي ضَمِن للأعضاء المنتخبين صلاحيات واسعة، يؤكد أنه من دون تشاركية بين المجالس المحلية والمجتمع المدني لا يمكن أن يستقيم الوضع بالصورة الأمثل، باعتبار أن المجتمع هو الرقيب المضمون والشريك الواثق، إلا أن هذه المجالس منفصلة عن الواقع لجهة فهمها وتطبيقها للقانون ولجهة عدم استنادها وتواصلها مع المواطنين، فلو استندت إليه لكانت شكّلت معه القوة المطلوبة للارتقاء بالواقع الخدمي والمعيشي المأمول من الجميع، حتى في فرض التغيير حتى على الخطط المركزية أو في إدارة رأس المال الخاص بالمحافظة، أو لجهة تنشيط الاستثمار والبحث عن المشروعات التي تعود بالنفع أو تشجع التمويل الذاتي.
المجالس أضاعت الفرص الاقتصادية التي قدمها القانون لجهة التمويل الذاتي
وانطلاقاً من المثل الشعبي القائل: “من جرّب مجرّب عقله مخرّب” فإن ثقة المواطنين باتت معدومة بهذه المجالس، ولا يبدو أنه بالأمر الهين، حتى لو جنّد أعضاء المجالس المحلية أنفسهم لترميم الشرخ مع القاعدة الشعبية، إلا أن الأخيرة، معظمها إن لم يكن جميعها، قد فقدت الثقة بقيام هذه المجالس بالدور المنوط بها بكفاءة، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الشخصية الضيقة.
“فرشوا البحر طحينة”
شريحة واسعة من المواطنين، ما إن تبادر بالسؤال عن رأيهم بالمجالس المحلية، حتى يسارعوا بالتعبير عن الامتعاض من عدم قيام الأعضاء المنتخبين بتنفيذ أي مما وعدوا به أثناء ترشحهم للمجالس المحلية، إذ أكد مواطنون لـ”تشرين” أن الأعضاء أثناء ترشحهم “فرشوا البحر طحينة” للمنتخبين، وكانت قائمة الوعود أطول بكثير من قائمة الطلبات، لكن ما إن وصلوا إلى مقاعد المجالس حتى نسوا أو تناسوا ما كانوا وعدوا به، أو ماذا يجب عليهم فعله لخدمة المجتمع المحلي، خاصة بما يتمتعون به من صلاحيات واسعة منحها إياهم قانون الإدارة المحلية.
وأشار المواطنون إلى عدم التواصل معهم من أعضاء المجالس المحلية، وعدم التشاركية وانعدام الشفافية والوضوح في التعاطي مع المشكلة وحلها، مطالبين بأن تكون هناك اجتماعات دورية بين أعضاء المجالس وبين منتخبيهم للتواصل والتشاركية في عرض الهموم وإيجاد الطرق لحلها، بما يسمح أيضاً للمجتمع الأهلي بأخذ دوره في الارتقاء بالواقع الخدمي.
وتساءل المواطنون عن دور المجالس المحلية بدءاً من القرية وانتهاء بمجلس المحافظة، بالقيام بمهامها بضبط الإيقاع الجنوني للأسعار، وعدم توفر الكثير من المواد، وإغلاق بعض المحال بانتظار التسعيرة الجديدة للمواد، ناهيك بتحسين الواقع الخدمي الذي ما زال يراوح مكانه في الكثير من القرى والبلدات بحجة أن الميزانية ضعيفة لا تفي بالغرض.
نأي المجالس المحلية بنفسها عن مجاراة الهموم المعيشية
والخدمية هو الثغرة الأكبر بعدم نجاحها في أداء مهامها بالصورة الأمثل
وبين شمّاعة جاهزة هنا وشمّاعة هناك، البون شاسع بين ما يتمنى المواطن وبين ما يدركه، في ظل الغياب المتعمد للمجالس المحلية عن الحياة اليومية للمجتمع المحلي وهمومه ومطالبه التي باتت قائمتها طويلة يستعصي على الأعضاء المنتخبين مجاراتها والعمل من أجلها.
النأي بالنفس
رئيس ومؤسس الأمانة العامة للثوابت الوطنية في سورية الدكتور حسام الدين خلاصي، يرى في حديث لـ”تشرين” أن المجالس المحلية كأنها لم تتفهم بعد الصلاحيات الواسعة جداً التي قدمها القانون الناظم لعملها، فهي تحل محل وزارة في عملها وقراراتها، لكن نجدها ورغم توسع اختصاصاتها والمجالات التي يمكن أن تتدخل فيها لم تحدث فرقاً في الواقع الذي مازال كما هو، والمواطن لم يلمس أي تغير في حياته وهذا ينسحب على أغلب المجالس في المحافظة ككل.
وحسب خلاصي، ربما كل هذا التعثر يرجع إما للطبيعة الشخصية لأعضاء هذه المجالس من حيث قوة الإرادة أو المعرفة بالقانون وإبداء المصلحة الخاصة على العامة، وأضاف: على المستوى الشعبي لم تستند هذه المجالس إلى الشعب الذي انتخبها لتشكل معه قوة وسنداً لها في فرض التغيير حتى على الخطط المركزية أو في إدارة رأس المال الخاص بالمحافظة أو لجهة تنشيط الاستثمار والبحث عن المشروعات التي تعود بالنفع أو تشجع التمويل الذاتي، مؤكداً في المحصلة أن هذه المجالس منفصلة عن الواقع لجهة فهمها وتطبيقها للقانون ولجهة عدم استنادها وتواصلها مع الشعب على الإطلاق.
تفعيل المساءلة الشعبية للمجالس وتحويل قضايا الفساد المثارة بالرأي العام
أو بالإعلام إلى قضايا من دون الحاجة إلى تقدم شكاوى ضدها من الأفراد
وعن وجود فساد في المجالس المحلية بمختلف تراتبياتها (محافظات، مدن، مناطق، بلديات)، أشار خلاصي إلى أن هذه المجالس بصورة واقعية لا تخلو من الفساد الذي تقع على عاتق الجهات الرقابية والتفتيشية مهمة كشفه، إذ لا تكفي الشكوك حولها ولكن المواطن يعزو كامل التقصير الحاصل إلى الفساد، ويتلمس آثار ذلك من خلال التقصير الحاصل والإهمال في طلباته المستعجلة.
وبيّن خلاصي أنه لا موجب لتعديل قانون الإدارة المحلية، بل على العكس فهو يحد من الفساد لأنه يمتاز بالمرونة وإن كان من ضرورة لكشف هذا الفساد فهذه مهمة الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش إضافة لتفعيل دور الرقابة الشعبية، مؤكداً أن تطبيق هذا القانون بمصداقية ومحاسبة المقصرين في الوقت ذاته هو الطريقة الوحيدة التي تضمن الحد من الفساد بصورة كبيرة.
وشدد خلاصي على أن نأي المجالس المحلية بنفسها عن مجاراة الهموم المعيشية والخدمية، هو الثغرة الأكبر في عمل هذه المجالس وعدم نجاحها في أداء مهامها بالصورة الأمثل، وتابع: النأي بالنفس عن متابعة الشؤون المعيشية والخدمية وتبني رأي الناس في حقوقهم ينجم عن فقدان الشفافية في العمل، للاهتمام بالمنصب أكثر من العمل من أجل الناس، والبقاء في دائرة الروتين وانعدام روح الإبداع والشخصية القيادية، الابتعاد كلياً عن مشروعات ورؤى المجتمع المدني (الأهلي أو المحلي) بصيغته المنظمة كهيئات مدنية أو جمعيات محددة الغايات أو نقابات مهنية.
وأكد خلاصي أنه لن يصح عمل المجالس مادامت في واد والناس في واد آخر ولا تستفيد هذه المجالس من الفرص التي يقدمها المجتمع الأهلي المتطوع وصاحب الإمكانيات الضخمة، ناهيك بأن هذه المجالس تمتاز بانعدام فكرة الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي قدمها القانون لجهة التمويل الذاتي والبحث عن مصادر التمويل بمشروعات خاصة بكل مجلس ومتعلقة بمنطقته الجغرافية إلى حد أن هذا معدوم على مستوى القطر وليس اللاذقية فقط ويمضي بسرعة السلحفاة.
وتابع: من دون تشاركية مع المجتمع المدني لا يمكن أن يستقيم الوضع بالصورة الأمثل، فهذا المجتمع المحلي هو الرقيب المضمون وهو الشريك الواثق.
فساد يحتاج إلى دليل قانوني ملموس
بدوره، أكد الباحث في الشأن الاقتصادي الدكتور يحيى راكاج أن أداء المجالس المحلية هو دون المتوسط، الأمر الذي يمكننا ملاحظته في كثير من المؤشرات في الشارع انطلاقاً من إشغال الأرصفة في غير ما هو مخصص لها، وصولاً إلى حجم الضبوط التي تنشرها المكاتب الصحفية المعنية بمتابعة عمل الدوائر التابعة للمجالس، إلى ما نشاهده بالعديد من المؤشرات الأخرى المعنية بواقع الخدمات وتنظيم أمور وقضايا الأحياء وما يرتبط بها من قضايا كثيرة.
مواطنون: ما إن وصلوا إلى مقاعد “المحلية” حتى نسوا أو تناسوا وعودهم البراقة
وأضاف راكاج مدللاً: لعل ما شهدته اللاذقية من جراء الزلزال في شباط الماضي، كشف عن عدد من أوجه القصور سواء بملاءمة اللجان المشكّلة للتعامل مع المهام المنوطة بها، من حيث المؤهلات والقدرات أو الإمكانيات والشفافية في التعاطي مع الأحداث، وحتى من حيث جاهزية هذه المجالس للتعامل مع الأحداث الطارئة المحتمل مواجهتها، وتابع: أعتقد أن أغلب الأفراد فقدوا الثقة بقيام هذه المجالس بالدور المنوط بها بكفاءة، والأمر طبعاً مرتبط بكفاءة ومتابعة الأفراد الشاغلين لمهامهم.
وأضاف راكاج: كمواطنين لا يمكننا البت بوجود فساد من دون دليل قانوني ملموس، لكن ما نلحظه من انعدام الشفافية في الكثير من القضايا المرتبطة بالمجلس سواء بالمعاملات والمخالفات أم جودة الخدمات المنوطة به أو حتى بانعدام التوصيف المعلن للمهام والواجبات المنوطة بالأفراد الذين يعملون في هذه المجالس جميعها، وتأخير المعاملات والردود عليها، جميعها مؤشرات تدعم ما يتم تداوله عن فساد هذه المجالس.
وعما إذا كان قانون الإدارة المحلية يتضمن ضوابط تضمن الحد من الفساد، أكد راكاج أن القوانين دائماً تكون مثالية وتشير إلى ضوابط الردع والحد من الفساد بالأطر النظرية والصيغ الإنشائية وهذا دورها، أما ضوابط الحد من الفساد فتتمثل بالتعليمات التنفيذية التي تتبع القوانين والتعليمات الداخلية الناظمة لعمل هذه المجالس بما تشمله من توصيف للمهام والواجبات وتوافق ملكات شاغلها، إضافة إلى الإلزام بالتزام الشفافية في كل الأمور والقضايا، وهي ليست مسؤولية القانون فقط، بقدر ما هي مسؤولية الأفراد القائمين على تنفيذ هذه القوانين.
الرقابة “النقدية” غير كافية بل يجب أن تكون مرتبطة بطبيعة العقود والتعهدات التي يتم إبرامها مع الغير
وحسب راكاج، فإن الرقابة المالية على عمل المجالس موجودة باعتبار أننا في سورية نتبع طريقة المراقبة النقدية، لكن عمل هذه الرقابة يكون غير كاف إذا كانت مرتبطة بطبيعة العقود والتعهدات التي يتم إبرامها مع الغير، لأن التسجيل النقدي للعمليات لا يراعي تبدلات الأسعار السائدة في السوق ولا يراعي عوامل التضخم وغيرها من العوامل الأخرى.
وحول المقترحات لإجراء تعديلات في قانون الإدارة المحلية لضمان المحاسبة والحد من الفساد على مستوى الأداء واستغلال العضوية وعلى المستوى المالي، رأى راكاج أن القانون جيد لكن يلزم تطوير إجراءات العمل في عدة مجالات ليتسم بالشفافية في العمل ومتابعة الإجراءات والاجتماعات وجميع الأمور المرتبطة بهم، وأتمتة العمل وتقليل احتكاك المواطنين مع موظفي المجالس قدر الإمكان، وإعلان توصيف المهام للمديرين والمسؤولين في المجالس أمام العموم، ومن ثم إبراز المؤهلات التي تشغل هذه الوظائف لمعرفة مدى مطابقتها للمهام المنوطة بها، وتوصيف المهام والواجبات للمجموعات الأصغر التابعة لهذه المجالس انطلاقاً من عمل لجان الأحياء، ومن ثم تأمين مقرات دائمة للمخاتير تتبع للمجالس تكون ثابتة بتغير المخاتير، كما تكون أجرتها عادلة ومتساوية بين الجميع، وتفعيل المساءلة الشعبية لهذه المجالس وفق المؤشرات الواجب إعلانها في بداية كل عام، وما تم تنفيذه منها، وإمكانية تحويل قضايا الفساد المثارة بالرأي العام أو بالإعلام إلى قضايا من دون الحاجة إلى تقدم شكاوى ضدها من الأفراد، لأن طول إجراءات التقاضي في محاكمنا وآلية تنفيذها يعدان عوامل سلبية في تقديم الشكاوي لدى الكثير من الأفراد.
مؤشرات عديدة يمكن ذكرها لتدعم ما يتم تداوله عن فساد المجالس
وأضاف راكاج: لا يمكن البت إن كانت هذه التعديلات مطلوبة كقانون أم تعليمات وإجراءات تتبع صدور القانون، أو إنها تحتاج إلى تطوير في الهيكل التنظيمي لهذه المجالس.
وبرأي راكاج أن نأي المجالس المحلية بنفسها عن مجاراة الهموم المعيشية والخدمية، مرتبط بعدة قضايا، مدللاً عليها بالصلاحيات الممنوحة لبعض الأعضاء في المتابعة بعمل باقي اللجان غير المرتبطة به، وضعف الأجور والمكافآت التي تجعل بعض شاغلي هذه المهام يسعون لتحقيق مكاسب مادية بعيداً عن هموم الآخرين. ناهيك بالترهل الإداري الذي كانت تعانيه هذه المجالس في الفترات الماضية والذي نجم عنه وصول أشخاص لا يتمتعون بالمؤهلات المطلوبة لشغل وظائف تحتاج لمواصفات معينة، ولم يتم تزويدهم بالمساعدات التي تغطي تلك الفجوات في أداء الأعمال، وعدم توافق مؤهلات البعض وإمكانياتهم مع الوظائف والمهام المنوطة بهم سواء سلباً أم إيجاباً.
اقرأ أيضاً: