تقصف العقول بذخائر “نظام التفاهة” .. تساؤلات مشروعة عن منصات التواصل الاجتماعي .. من يموّلها ويحرّكها وماهي سلبياتها.. والأهم من يراقب ؟!

تشرين – بادية الونوس:
أدى انتشار المنصات على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى فوضى كبيرة لها تبعاتها، إذ يمكن لأي كان أن يقدم محتوى أو برنامجاً في أي مجال من دون الحاجة إلى ترخيص أو موافقة.
أمام هذا المشهد للضخّ الهائل من كل حدب وصوب، يؤكد الخبير الإعلامي حسين الإبراهيم أن الهدف من هذه المنصات هو تفتيت (دائرة المتلقي) وتحويله إلى شخص سطحي خاضع لضخ معلومات فارغة من أي أفكار، انطلاقاً من نظرية (هندسة الرأي العام) التي تطبقها وتقف وراءها قوى اقتصادية واجتماعية عالمية.
في المقابل يرى د. غسان منصور الأستاذ في كلية التربية أنه في ظل غياب كل أنواع الرقابة الداخلية في كل الوزارات، أصبح موضوع تلك المنصات مشابهاً لموضوع الدورات الكلّ (مدرّب) والكلّ (معلّم) والتعويل فقط على الرقابة الذاتية.

أمام هذا المشهد يجب على الجهات المعنية، تنظيم العلاقة ولكن بأفق جديد وذهنية منفتحة، بدءاً إلى التحوّل نحو التواصل مع المتلقي بدلاً من التلقين والتوجيه، وانتهاء بتحوّل الإعلام إلى مكون اجتماعي وسياسي واقتصادي كبديل عن المكون الخدمي، نتناول في هذا الموضوع نقاطاً عدة عن إيجابيات وسلبيات تلك المنصات، وما أهدافها والضوابط أو الآلية التي يمكن أن تنظّم هذا النوع من الإعلام؟

الجميع تحت سطوة هذا العالم
يشعر (أبو المجد) بالخوف إلى حدّ القلق على أبنائه، من جراء سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي على عقولهم وتفكيرهم، بل تكاد تكون في تفاصيل حياتهم، ولاسيما البرامج التي تضخها المنصات على اختلافها لساعات طويلة يومياً على حساب الدراسة والعمل. مضيفاً: لا أدري ماذا يشاهدون وهو عاجز تماماً عن التحكّم بهم وتوجيهم. ببساطة أبناء هذا الجيل هم أبناء تلك التقنيات، والخطورة في الموضوع أن الجميع تحت سطوة وسحر ذلك العالم الأزرق.

الإبراهيم : الهدف منها الإغراق في الاستهلاك والترفيه الفارغ وتجاهل القضايا العميقة

حال (أبو المجد) حال أغلبية أسر مجتمعنا، التي لديها أبناء باتوا أسيري مواقع التواصل الاجتماعي ونتاجها، وما يؤكد ذلك هو سلوكهم وآراؤهم في كل المجالات والتي كثيراً ما تكون بعيدة كل البعد عن واقعنا.
لها معايير مختلفة
بداية حاولنا التواصل مع عدد من أصحاب المنصات، الوحيد الذي تعاون معنا “باش جوريوس” وهو مدير فني لإحدى المنصات، ومن وجهة نظره أن الصفحات المنتشرة بكثرة والتي تقدم (مقالب- تجارب – “اسكتشات” .. إلخ) لا يمكن تسميتها بالمنصات، لأن كلمة منصة تحمل مفاهيم كبيرة ومعايير مختلفة، والصفحات المنتشرة هي تجارية ربحية ، هدفها الأول الربح، مشيراً إلى أن الهدف من المحتوى المقدم نخبوي وواسع، يشمل جميع الفئات (علوم، تكنولوجيا، فنون، أو حتى قضايا اجتماعية وسياسية)، ويتم إنتاج المحتوى بشكل دوري لتلبية احتياجات الجمهور بهدف تقديم محتوى عالي الجودة يتجاوز النمطية والسطحية المنتشرة، مؤكداً أن منصته لا تحقق أرباحاً كبيرة، لكنها تقوم بتسديد جزء من المسؤوليات المالية المترتبة على الشركة التي تتبع لها.

لها أهداف بعيدة !
يؤكد الخبير الإعلامي حسين الإبراهيم أن منصات التواصل الاجتماعي لم توجد من حيث المبدأ لتحقيق هدف إعلامي أو ثقافي أو فكري، بل كان الهدف الأساسي منها تطبيق نظرية “تفتيت دائرة المتلقي” وتحويله إلى شخص خاضع لضخّ المعلومات السطحية السريعة، التي لا تحمل أفكاراً بحكم ارتباطها بعامل سرعة القراءة، ولا تتطلب من المتلقي أن يفكر بما يقرأ، انطلاقاً من نظرية “هندسة الرأي العام” التي تطبقّها القوى الاقتصادية والاجتماعية العالمية التي تحمل أجندات التسطيح، ولعل ما قاله “آلان دونو” في كتابه “نظام التفاهة” يوضح ذلك، وهو ما يقصده بمصطلح “نظام التفاهة” الذي طرح نظرية حول كيفية عمل المجتمعات الحديثة وكيف أصبحت سطحية ومتجاهلة للقضايا العميقة والمهمة.

ويبين أن من وجهة نظر دونو أن الثقافة الحديثة تغرق في الاستهلاك الزائد والعمل الروتيني والتسلية والترفيه الفارغ، وتفقد مجدداً قدرتها على التأمل والتفكير العميق. ويعتبر أن هذا النظام يحوّل الأفراد إلى مستهلكين غير قادرين على فهم العالم والتفاعل معه بشكل عميق، ما يؤدي إلى فقدان الهوية الشخصية والاندماج الاجتماعي. وعلى هذا الأساس يرى دونو أن نظام التفاهة يسيطر على المجتمعات الحديثة ويلوّثها ويؤثّر فيها سلباً.
إيجابياتها
على الرغم من أن هذا الانتشار الواسع للمنصات والبرامج قدّم فرصاً كبيرة للتعبير الحرّ وتبادل الأفكار، إلا أنه أيضاً ساهم في زيادة الفوضى والارتباك. فعدم وجود ضوابط صارمة للمحتوى المقدّم على هذه المنصّات يمكن أن يؤدي إلى نشر أخبار كاذبة ومضللة وإثارة الانقسامات بين الناس .
يتحدث الإبراهيم عن سلبيات تلك المنصّات وإيجابياتها بأنه: في المجال الاجتماعي، يمكن للأشخاص الآن إنشاء برامج تتحدث عن قضايا مجتمعية بمختلف أشكالها، وعلى الرغم من أن هذا يمكن أن يكون إيجابياً في بعض الأحيان، إلا أنه قد يؤدي أيضاً إلى انتشار خطاب العنف أو التمييز على أساس العرق أو الجنس أو الدين وغيره.
وكذلك المجال السياسي، أصبح من الممكن لأي شخص أن ينشر آراءه السياسية ويروّج لقضاياه المفضّلة على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا له جوانب إيجابية، حيث يسمح للناس بمشاركة وجهات نظرهم والتعبير عن آرائهم السياسية الخاصة. لكن يمكن أيضاً لهذه الخاصية أن تؤدي إلى انتشار الأفكار المتطرّفة وتعزيز الانقسامات السياسية.

لا بدّ من الانتقال إلى قانون جديد للإعلام مرتبط بالتطورات المستقبلية بديلاً عن الأدوات التقليدية

أيضاً في المجال الديني، انتشرت المنصات التي تقدم برامج دينية بشكل واسع، وبالتالي يمكن لأي شخص أن يصبح مرجعاً دينياً وينقل رسائله الدينية إلى الجماهير. وعلى الرغم من أن هذا الانتشار قد يعزّز الوعي الديني للناس ويقدم لهم منصة للتواصل، إلا أنه قد يؤدي أيضاً إلى الانسياق وراء الآراء المتطرفة والتأثر بفتاوى مشكوك بصحّتها.
حوّلت العالم إلى غرفة صغيرة
شئنا أم أبينا تحوّل العالم إلى غرفة صغيرة، تبدأ القصة بخبر صغير وتنتهي بـ”تريند”. إذاً هل تؤثر في صياغة رأي عام؟ وفق الإعلامي الإبراهيم فإن السرعة الهائلة للإعلام والتكنولوجيا حوّلت العالم إلى غرفة صغيرة تجمع بين الأفراد من خلفيات وثقافات مختلفة في هذه الغرفة، وتعمل وسائل الإعلام الاجتماعية، مواقع الأخبار، والتطبيقات الرقمية، على توصيل الأخبار والأحداث الصغيرة والكبيرة إلى الناس في الوقت الحقيقي، وتبدأ القصص باكتشاف صغير، تحتفظ به مئات القلوب والعقول، وتنتهي بتحوّل ذلك الاكتشاف إلى “تريند” يُنشئ موجة من الحديث والتعليقات، مبيّناً أن تأثير الأخبار والقصص الصغيرة في صياغة رأي عام ليس بالأمر البسيط. فبدلاً من ذلك تحدث هذه القصص موجة من التفكير والنقاش والتأثير الاجتماعي، فالأخبار الصغيرة تتحدث عن تجارب شخصية لأفراد، وربما يتشارك فيها المجتمع ويجتمع على الحلول المقترحة، وقد تكون هذه القصص مصدر إلهام للأفراد للقيام بأعمال جيدة أو نشر الوعي بقضايا مهمة.
قد تشكّل رأياً عاماً خاطئاً
وأضاف: إن الأخبار الزائفة والمضللة يمكن أن تنتشر بسرعة كبيرة، وتؤدي إلى تشكيل رأي عام خاطئ واعتقادات مغلوطة. لذلك يجب على الأفراد أن يكونوا حذرين ويتحققوا من مصداقية المصادر قبل التفاعل مع الأخبار وتبنّيها .
ما الهدف منها؟
يبقى السؤال المشروع لكل من يتابع تلك المنصات على اختلاف أنواعها، ما الهدف لمن يقف وراء تلك التطبيقات أو البرامج؟
يرى الإبراهيم أن الهدف الذي يمكن أن يكون وراء النشاط الكثيف على شبكات التواصل الاجتماعي يختلف من شخص إلى آخر، لكن بشكل عام يمكن أن تكون هناك أهداف عدة، منها جمع تعليقات الإعجاب وعدد المشاهدات وكذلك لتحقيق أرباح مادية، سواء عن طريق الإعلانات المدفوعة أو الشراكات مع العلامات التجارية أو بيع المنتجات أو الخدمات والترويج لمنتجاتهم .
ضوابط

يؤكد الإبراهيم أن هناك طرقاً عدة يمكن اتباعها لإيجاد ضوابط ورقابة وإشراف لتنظيم الكم الهائل من هذه البرامج، أولاً – تشكيل فرق عمل متخصصة في مجال المراجعة والرقابة على المحتوى وفرق مدربة جيداً على كيفية التعامل مع المحتوى وقادرة على تحديد المحتوى المسيء وغير الملائم.
– وضع سياسات وقواعد استخدام واضحة ومحددة للمنصات التي تتيح نشر المحتوى، وذلك للحدّ من المحتوى غير الملائم والمسيء.
– استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي للمساعدة في عملية فحص وتصنيف المحتوى.
– استثمار آراء المستخدمين وتقاريرهم للكشف عن المحتوى المشبوه أو المخالف.
-وضع قوانين حكومية ومجتمعية ولوائح لتنظيم المحتوى على الإنترنت .
– توفير التثقيف والتوعية للمستخدمين بشأن كيفية التعامل مع المحتوى وكيفية الإبلاغ عن المحتوى الضار أو المسيء .
– تشجيع المحتوى المتميز الذي ينسجم مع المتطلبات المجتمعية، ويحفّز على التطوير والإبداع.
تشريعات استخدام آمن وإيجابي
في مقدمة أهدافها الترويج وتحقيق الأرباح، لكن للمنصات سلبيات، بدأت تتبدّى بحكم أنها تسيطر على العقول، ووفق الباحث الإعلامي والمحاضر في الجامعة الافتراضية د. منذر أحمد أنها في الوقت ذاته مسيطر عليها من الدول المالكة والمشغّلة لها، وبيّن أن سلبيتها بسبب كونها تدار وتضع قوانين تفرضها دول لها أجندتها الخاصة التي تمنع وتحجب أو تبيح وتمرّر ما تراه مناسباً ولا يتعارض مع سياستها .

د. منصور: هذه المنصات كحال الدورات التدريبية.. الكلّ (مدرّب) والكلّ (معلّم) من دون تراخيص

ولفت د. أحمد إلى أننا في سورية عانينا الأمرّين من تلك المواقع التي فرضت سياستها الخاصة، وفرضت مصطلحاتها وحرمت متابعيها وكتّابها من نشر الحقائق أو إشارات تتعلق بفضح أكاذيب أعدائنا، وكذلك تم منعنا من نشر الفيديوهات والصور والاقتباسات التي تظهر ما يقع من ظلم .
وأضاف: إن العديد من الأنظمة باتت تؤرقها مسألة اللانضباط التي تعيشها مواقع التواصل، وسعت على مدار السنوات الماضية إلى ضبط عملها أو حظرها في بعض الحالات ، إلا أن عملية الحظر لم تعد مجدية في هذا العصر التكنولوجي الذي نعيشه، لافتاً إلى أن بعض الدول وضعت قوانين خاصة بالجرائم المعلوماتية وغيرها من التشريعات، يمكن أن تسهم في الضبط المحلي لتأمين استخدام آمن وإيجابي لتلك المواقع، كما شهدت بعض الدول دعوات لوضع مواثيق شرف صحفية، وبيّن أنه في عام 2014 وبجهد شخصي وضعت مسودة خاصة لميثاق الشرف الصحفي الخاص بالإعلام الإلكتروني .
ولفت إلى اهتمام جامعة الدول العربية بوضع مدونة سلوك خاصة بتنظيم عملها، وغيرها من المبادرات التي تصب في السعي المتواصل لضمان تنظيم عقلاني لعمل المواقع وتوابعها .

ماذا عن دور الجهات المعنية؟
يرى الخبير الإعلامي حسين الإبراهيم أن دور وزارة الإعلام واتحاد الصحفيين والجهات المعنية يكمن في تنظيم هذه العلاقة ولكن بأفق جديد وذهنية مرتبطة بالتطورات التي تحصل عالمياً في مجال الإعلام، بدءاً بالتحول نحو التواصل مع المتلقي بدلاً من التلقين والتوجيه، وانتهاء بتحول الإعلام إلى مكون اجتماعي وسياسي واقتصادي كبديل عن المكون الخدمي، حيث لم يعد الإعلام مجرد نقل للمعلومات، بل صار صناعة بكل معنى الكلمة، صناعة تحوّل المعلومات إلى منتَج إعلامي، علينا أن نتخلص من إعلام الأجندة، ونتجه إلى إعلام استقطاب الإمكانات الإعلامية المجتمعية، من خلال مشاركة المتلقي في صياغة المعنى.
وأضاف: في هذا الإطار لابد من الانتقال إلى قانون جديد للإعلام وقانون جديد لاتحاد الصحفيين، على أن يكون هذا الانتقال مرتبطاً بالتوجهات المستقبلية، أي أن تهتم التشريعات بالأدوات الإعلامية المستقبلية، بما في ذلك الصحافة الخوارزمية، وصحافة الميتافيرس، والويب 3، كبديل عن الاهتمام بالأدوات الإعلامية الآنية والتقليدية.
الرقابة الذاتية
يرى د. غسان منصور الأستاذ في كلية التربية أن غياب الرقابة الداخلية في جميع الوزارات، سمح للمتسلّقين بافتتاح هذه المنصات، وأصبح الموضوع كحال الدورات التدريبية، فالكلّ مدرب والكل معلم من دون الحصول على التراخيص من الجهات المعنية، ولا يمكن توجيه الأجيال الجديدة أو حتى تزويدها بشيء يحميها، لأن عدد المنصات أصبح كبيراً ومحتواها غير معروف وغير مراقب، حتى مع انتشار «الريسيفر والستالايت» لم تتدخل الأجهزة المعنية، وتركت الأجيال تربيها قنوات وبرامج، ولم ولن تتم هذه الرقابة، والتعويل فقط على الرقابة الذاتية .

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار