أسماك نافقة في بحر الشعر!

قرون مرت ولا تزال الكلمات تطفئ ظمأ من يشتاق إلى صدق القلوب ورقّتها، ويملك خيالاً خصباً يحلّق في عوالم ترى فيه العيون مالا يُرى بالبصر المحدود، وتهيم القلوب ولا أجمل في عوالم تخترق المكان والزمان فتكون قريبة قرب الروح للجسد، وبعيدة تتخطى الكواكب والنجوم إلى عالم من نور.
لله ما بين شعر وشعر… شعر يضيع فيه الشاعر وتبقى مشاعره وكلماته، ومابين شاعر يعتلي المنصات ويقول هأنذا المبدع فاقرؤني وإذا به غارق في أحرف لا يتقن صفها ولا يفقه معناها..
الصدق لايبلى مهما تطويه السنون وأينما حلّ تكون له الصدارة ،والكلمات عندما تتسع بحجم حالات الروح وسفرها تستقر برداً وسلاماً في القلوب التي نبتت نباتاً طيباً..
ولعلّ عيب الحداثة أنها تحمل رداءة الأسواق التي تعج بالمنتجات غير الصالحة للعواطف البشرية، وكذلك ما يقال عن منتجات البعض بأنها شعر حديث تتبعثر حروفه فوق البسطات وعلى الأرصفة مدعياً أنها لغة العصر ويغرق الأذواق في الماديات وقد يرتشف المخدرات فتضَيّع قبل العقول أصحابها ويريد أن يصل إلى القلوب فيصطدم بجدران المقابر وكيف يمكن لما يفنى أن تكون له ذاكرة في قصائد كانت تزين الأرواح قبل الأجساد.
ليست الحداثة هي المشكلة، لكن من يركبون الأمواج ليقفوا أمام الكاميرات ويمنحون أنفسهم ألقاباً أكبر من قاماتهم ثم يقفزون فوق الرؤوس لـ”يفوشوا” فوق أمواج البحر كالأسماك النافقة، ويدعون أنهم أرباب القصائد والشعر والأدب وحين يفتح الناس أوراقهم يجدون أرواحاً محنطة وزهوراً اصطناعية ووصفات حب سامة وعيوناً مطفأة فيرمون الأوراق في مكبات القرن ويغادرون المسرح…
مابين الرداءة والجمال حقول قمح وغابات صنوبر ورياحين وزقزقة عصافير وأجنحة فراشات ملونة وليس العيب في الوجدان ولا في السمع والبصر، وإنما هو وجدان وشعور يخرج من القلب ويدخل إلى القلب.
ولا أجد أجمل من قصيدة “عذب بما شئت” التي كانت ولا تزال من أعذب ما أنشد من الشعر لكبير الشعراء أبو حفص عمر بن الفارض الذي اشتهر بلقب سلطان العاشقين… يقول فيها:
عذِّبْ بما شئتَ غيرَ البعدِ عنكَ تجدْ أوفى مُحِبٍ، بما يُرْضيكَ مُبْتَهِجِ
وخذْ بقيَّة ما أبقيتَ منْ رمقٍ لا خيرَ في الحبِّ إنْ أبقى على المهجِ
لِلّهِ أجفانُ عينٍ، فيكَ، ساهِرَة، شَوْقاً إليكَ، وقَلْبٌ، بالغَرامِ، شَجِ
“ما بينَ مُعْتَرَكِ الأحداقِ والمُهَجِ، أنا القَتيلُ بلا إثْمٍ ولا حَرَجِ”
ودَّعْتُ، قبلَ الهَوى، رُوحي، لما نَظَرَتْ عيناي منْ حسنِ ذاكَ المنظرِ البهجِ

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار