إنفاقٌ ثقافيّ
بعض الناس يتوهمون أنهم يعرفون أكثر من غيرهم في شؤون الحياة، فتجدهم يقترحون تحت وطأة الظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيشها لأسباب عدة، أن تتوقف وزارة الثقافة والهيئات والمديريات التابعة لها وكذلك اتحاد الكتّاب العرب بفروعه كاملة، والهيئات الثقافية غير الحكومية، عن إقامة الأنشطة الثقافية وأولها المهرجانات، لأن تلك الأنشطة تحتاج لأموال كثيرة يمكن بها دعم إنتاج سلعة أخرى لوزارة ثانية أو هيئات أخرى. نقرأ ذلك الاقتراح بكثير من الاستغراب، وكأن النشاط الثقافي صار رفاهية مثله مثل المشروبات أو الأطعمة الكمالية للإنسان! ففي رأينا من يقترح مثل هذا الاقتراح أولاً لا يفقه شيئاً في الثقافة ودورها الذي يظل مهما كانت تكلفة إنتاجها قليلة، أو تعاني التقشف، غايته الدعوة للسمو بأفعالنا كبشر، فوحده النشاط الثقافي بتنوعه يهذّب ما هو (ذئبّيٌ) فينا.
وقد قرأنا مؤخراً ما تم تداوله على صفحات الأصدقاء من إعلان سيصبح نافذاً بدءاً من 1 شباط هذا العام، إذ سيحصل جميع سكان برلين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و23 عاماً على مبلغ 50 يورو ليتمكنوا من المشاركة في النشاطات الثقافية التي تُقام وتوجد في العاصمة، كما يمكن استبدال هذا الرصيد بتذاكر في نحو 200 مكان ثقافي في برلين، كالمتاحف، والمسارح، ودور الأوبرا، إضافة إلى قراءات الكتب، والأماسي السينمائية. طريقة الحصول على هذا المبلغ يمكن لفئة الشباب المحددة والمسجلة في برلين خلال فترة الحملة من 1 شباط حتى 30 نيسان التسجيل على الإنترنت عبر موقع تم إنشاؤه خصيصاً لهذا الغرض. تأتي هذه المبادرة من إدارة الثقافة في حكومة برلين المحلية وأوروبا. فهذه البطاقة تساعد على توفير الوصول إلى الثقافة وفي الوقت نفسه تقوية القطاع الثقافي. فهل في رأي من يقترح إلغاء هذا المهرجان أو ذلك النشاط، رغم أننا في ظروف لا تشبه الظروف الاقتصادية لألمانيا، أنهم ينفقون على الثقافة عبثاً، من دون أن يعرفوا أثرها في الإنسان؟. وقد يُعتقد أن هذه الحملة اختراع حديث، ففي زمن «بركليس» حاكم أثينا (490 ق.م – 429 ق.م)، كان يُدفع أجرة نهارين لعامة الناس لحضور المسرح، لمعرفة هذا الحاكم بأثر الفن والمسرح في تهذيبهم. فالإنسان اليوم يستعيد ما أنجزته الحضارة اليونانية، بأكثر من تجلٍ، إذ إن الإحصاءات والدراسات التي أشار إليها الناقد حنا عبود في أحد كتبه، تفيد أن نسبة الجرائم والسرقات، وتالياً شهوة الإنسان للحروب تقلّ كثيراً عندما يستهلك الآداب والفنون منذ الطفولة.