600 مليار دولار إضافة سنوية إلى الاقتصاد.. الذكاء الاصطناعي الصيني محور المنافسة لقيادة سوق التكنولوجيا في العالم
منذ عام 2000 أرسلت الصين ما يقدر بنحو 5.2 ملايين طالب وباحث للدراسة في الخارج، الأغلبية العظمى منهم درسوا العلوم أو الهندسة، والبعض منهم تخصص في مجالات تكنولوجية فائقة الأهمية، تحديداً الذكاء الاصطناعي.
بالطبع بقي عديد من هؤلاء المبتعثين في الدول التي درسوا فيها، لكن عدداً كبيراً منهم عاد أيضاً إلى الصين للعمل في المختبرات والمعامل والشركات ذات القدرات التكنولوجية الفائقة والمتخصصة في الذكاء الاصطناعي.
اليوم تحتل الصين المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة في حجم الإنفاق على العلوم والتكنولوجيا.
وتنتج الجامعات الصينية الآن أكبر عدد من حاملي شهادات الدكتوراه في العالم في الهندسة، وبفضل الاستثمارات الصينية الكثيفة في مجال التكنولوجيا والقوى العاملة في هذا المجال، ازداد الإنتاج العلمي للصين مقيساً بإجمالي عدد الأوراق البحثية المنشورة لعلماء وباحثين وأكاديميين صينيين في مجال التكنولوجيا والتقنيات الحديثة.
وفي عام 2017 نشر العلماء الصينيون لأول مرة أوراقاً علمية فاقت ما نشره الباحثون الأمريكيون عدداً، بالطبع لا تعني الكمية الجودة، لكن الآن يثور نقاش بين الأكاديميين الدوليين عما إذا كان الانفجار الكبير في الأبحاث التي يقدمها عديد من العلماء الصينيين قد بات مصحوباً بارتفاع في المستوى العلمي، والإنفاق على مجال البحث والتطوير؟
في عام 2018 كانت الصين أكبر ثاني منفق على البحث والتطوير بعد الولايات المتحدة بقيمة إجمالية قدرت بـ300 مليار دولار، وفقاً لصحيفة “فاينانشيال تايمز”، أما العام الماضي فقد أعلنت الصين رسمياً أن إنفاقها على البحث والتطوير بلغ 2.44 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي أي ما يصل إلى 441.13 مليار دولار.
وسط هذا الاهتمام العام بالأبحاث التكنولوجية من الباحثين الصينيين، تحظى تقنيات الذكاء الاصطناعي باهتمام خاص، حيث عملت الصين بجهد دؤوب على إغلاق الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي.
الباحثون في الصين ينشرون الآن مزيداً من الأوراق البحثية حول الذكاء الاصطناعي، ويحصلون على براءات اختراع أكثر مما يفعل نظراؤهم في الولايات المتحدة، بحيث يبدو أن الصين قد تصبح رائدة هذا الفرع الحيوي من فروع التكنولوجيا في الأجل المنظور.
الدكتور جاكسون روي أستاذ العلاقات الدولية والخبير في الشأن الصيني في جامعة لندن يعلق لـ”وكالات” قائلاً: “هذا الفرع من فروع المعرفة يحظى باهتمام ملحوظ من القيادة الصينية، وقفزت حصة الصين العالمية من الأوراق البحثية في مجال الذكاء الاصطناعي من 1086 ورقة بحثية في عام 1997 إلى 37343 عام 2017 متجاوزة أي دولة أخرى في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة، وتقدم الصين باستمرار براءات اختراع في مجال الذكاء الاصطناعي أكثر من أي دولة أخرى، وبدءاً من آذار 2019 وصل عدد شركات الذكاء الاصطناعي في الصين إلى 1189 لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة التي لديها أكثر من ألفي شركة نشطة في مجال الذكاء الاصطناعي”.
ويضيف: “صنفت الصين العام قبل الماضي من بين الدول الثلاث الأولى فيما يتعلق بحيوية الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الكلي، وفي الاستثمار الاقتصادي استحوذت على ما يقرب من خمس تمويل الاستثمار الخاص العالمي، بحيث جذبت في عام 2021 نحو 17 مليار دولار للشركات الناشئة العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي”.
في ظل هذا التقدم بات الاقتصاد الصيني أكثر اعتماداً على الذكاء الاصطناعي إلى الحد الذي دفع عدداً من الخبراء الغربيين إلى القول إن التكنولوجيا هي محور العلاقة المتغيرة بين الصين والعالم. فمجالات التمويل وتجارة التجزئة والتكنولوجيا العالية تمثل مجتمعة أكثر من ثلث سوق الذكاء الاصطناعي في الصين، ومعظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي توجه إلى المستهلك مدفوعة بطبيعة الحال بأكبر قاعدة مستهلكين عبر الإنترنت في العالم.
ويعلق ديفيد اليوت الباحث في مجال التجارة الإلكترونية على هذا الجانب بالقول لـ”وكالات”، “إن الصين تتمتع بسوق نابضة بالحياة، تتقبل المنتجات الجديدة القائمة على الذكاء الاصطناعي، والشركات الصينية سريعة نسبياً في تقديم منتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي إلى الأسواق، والمستهلك الصيني سريع في تبني منتجات وخدمات الذكاء الاصطناعي، وهذا بالطبع يدعم البيئة المحيطة والتحسن السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي والمنتجات التي تعمل به”.
من المرجح أن تجلب تقنيات الذكاء الاصطناعي بتطبيقاتها الواسعة في العملية الصناعية خاصة في مجال البحوث الطبية والمركبات ذاتية القيادة وغيرها نحو 600 مليار دولار سنوياً للاقتصاد الصيني، أي ما يعادل نحو 3.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الصين.
وتكشف الأرقام المتاحة أنه في عام 2021 بلغت قيمة سوق الذكاء الاصطناعي في الصين ما يزيد قليلاً على 23 مليار دولار، ويتوقع أن يصل الرقم إلى 62 مليار دولار بحلول عام 2025، بينما تهدف الحكومة الصينية إلى أن يوفر الذكاء الاصطناعي ما قيمته 155 مليار دولار من الإيرادات السنوية، وأن تولد الصناعات ذات الصلة تريليوناً ونصف تريليون دولار سنوياً.
من جهتها، تقول لـ”وكالات”، روزي ونجر أستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة كامبريدج “الدافع الرئيس وراء سرعة النمو في قطاع التكنولوجيا الصيني هو الحكومة، التي جعلت من أولوياتها أن تصبح الصين قوة عظمى تكنولوجية رائدة بحلول عام 2025، وفي عام 2015 حددت الصين إستراتيجية (صنع في الصين) لعام 2025، وهي خطة وطنية مدتها عشرة أعوام لتطوير التصنيع عالي التقنية في مجال التكنولوجيا والمعلومات والروبوتات، والإستراتيجية المطروحة تهدف إلى تسريع انتقال الصين من التصنيع منخفض القيمة المضافة إلى الاقتصاد القائم على الابتكار”.
وتضيف: “وبفضل تلك الجهود باتت الآن واحدة من كل ثلاث شركات يونيكورن في العالم -المصطلح يطلق على الشركات الخاصة التي تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار- صينية، والدولة الصينية تمثل حالياً 50 في المئة من المدفوعات الرقمية العالمية، وثلاثة أرباع سوق الإقراض العالمية عبر الإنترنت، وبحلول عام 2030 يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تسهم في زيادة الناتج المحلي الإجمالي في الصين 26 في المئة”.
مع هذا يرى معظم الخبراء أن تنامي التفوق الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي لا يعني أن يكون له التأثير ذاته في جميع القطاعات الاقتصادية، فالتأثير الأكبر له سيبرز في قطاع السيارات، ويرجع ذلك إلى أن سوق السيارات في الصين هي الأكبر في العالم، ويفوق عدد السيارات المستخدمة مثيلتها في الولايات المتحدة.
ويتوقع أن يكون لدى الصين بحلول عام 2030 أكثر من 300 مليون سيارة، ومن ثم يرجح الخبراء أن يكون للذكاء الاصطناعي أكبر تأثير محتمل في هذا القطاع، وأن يقدم أكثر من 380 مليار دولار من القيمة المضافة، وستشكل المركبات ذاتية القيادة الجزء الأكبر من القيم المضافة التي سيتم إيجادها في هذا القطاع وتقدر مساهمتها بـ335 مليار دولار.
أهمية الذكاء الاصطناعي في قطاع السيارات الصيني، لا تنفي- من وجهة نظر إل.دي. هاموند الباحث في مجال التكنولوجيا فائقة التطور- أن المسار الصيني الراهن في التحول من مركز تصنيع منخفض التكلفة للألعاب والملابس إلى التصنيع الدقيق للمعالجات والرقائق الإلكترونية والمحركات والمكونات المتطورة الأخرى، يجعل الذكاء الاصطناعي ضرورياً لتسهيل عملية التحول من التصنيع إلى “الابتكار التصنيعي” ما سيساعد على توفير 115 مليار دولار من القيمة المضافة، كما أن ارتفاع مستوى المعيشة للطبقة المتوسطة الصينية، وزيادة معدلات الشيخوخة لدى السكان يجعلان الصين تكثف من جهودها في دمج الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية وعلوم الحياة.
وحول مراهنة الصين على الذكاء الاصطناعي لإحداث طفرة نوعية في مستوى الرعاية الصحية في البلاد يعلّق لـ”وكالات” قائلاً: “الذكاء الاصطناعي يساعد على إحداث طفرة نوعية في تسريع اكتشاف أدوية وعلاجات جديدة وزيادة احتمالات نجاحها، وفي عام 2021 بلغ الإنفاق العلمي على البحث والتطوير في مجال الأدوية 212 مليار دولار مقارنة بـ137 مليار دولار في عام 2012، ويستغرق اكتشاف الأدوية 5.5 أعوام في المتوسط، والشركات الصينية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي تعمل على إدخال تلك التكنولوجيا في مختلف مناحي الرعاية الصحية، وتستهدف بذلك نحو 25 مليار دولار من القيمة المضافة سواء في مجال اكتشاف أدوية جديدة وبصورة أسرع وتحسين التجارب السريرية”.
يمكن القول إن الصين لديها سياسة قوية لتعزيز الذكاء الاصطناعي في مختلف مناحي الحياة، خاصة في القطاعات الاقتصادية الإستراتيجية، ومن خلال عديد من المؤشرات تعد الصين حالياً في الطليعة العالمية لمستخدمي تقنية الذكاء الاصطناعي، تحديداً في تطبيقات السوق، والمؤكد أنها لحقت بالركب في وقت قياسي، وهو ما يجعل حرب التكنولوجيا القائمة بين الولايات المتحدة والصين والنزاعات المتزايدة حول حقوق الملكية الفكرية وزيادة الحمائية، أمراً شديد الأهمية لتحديد من سيقود سوق التكنولوجيا العالمية، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي في العقود المقبلة.