الذاكرة البديلة
في هذه النزعة المريبة للمقيم على الأرض العربية صوب الماضي ثمة التباس يثير الدهشة، وذلك بهذه “القداسة” أحياناً التي يُصبغها على هذه النستالوجيا، بحيث يُخيل للمرء، وكأن هذا الكائن، ورغم كل وجوده الحسي في الحاضر، غير أن عقله ومشاعره، وفي كل أفعاله وتصرفاته، تؤكد أنه لا يزال يعيش في الماضي، أحياناً قد يكون هذا الماضي بعيداً جداً، قد يصل إلى الآلاف من السنين، وأحياناً قد يكون هذا الماضي قريباً بعض الشيء، وفي كل الأحوال فإن الكائن على الأرض العربية– وهذا هو المؤكد إلى الآن- لا يعيش حاضره، ومن ثم من نافل القول أن نذكر أنه يفكّر في المستقبل.
كان الشعر سبّاقاً إلى كشف أهمية مفهوم الذاكرة في تفسيره، ولكنني أعتقد أننا مازلنا لا نقدّر أثر مفهوم الذاكرة على الشعر المعاصر تقديراً حسناً.. وهنا من الأهمية بمكان الاعتراف بأن الاهتمامات الاجتماعية والتاريخية التي كانت الكتابة منخرطة في خدمتها, لم يعد لها ذلك الحضور, بل أصبحت تسعى جاهدة إلى التحرر منها ربما لما شملت من أكاذيب وأوهام وهزائم متجهة نحو ذلك الشخصي والحميم والخاص في صنع الذاكرة البديلة, وهذا معناه أننا بشكلٍ من الأشكال نسعى إلى أن نتخلص مما تحمله ذاكرتنا من هموم كثيرة, وكأننا نسعى إلى أن نمحو ذاكرتنا محواً, لا بالمعنى المعرفي, بل بالمعنى القيمي, الذي تتراجع فيه اهتمامات سابقة عن أن تكون قيماً فاعلة في تشكيل حاضرنا.. حينئذ تبدأ المهمة الأخرى المكملة, مهمة أن نصنع لأنفسنا ذاكرة أخرى بديلة من اهتمامات تحل محل ما نحذفه ونمحوه.. وأسهل شيء أن نستبدل بما نحذف ذاكرة أخرى نصنعها من حاضرنا الذي يتصدر اهتماماتنا بوصفنا بشراً مضطرين إلى مواصلة حياتنا مهما تكن أحلامنا القديمة قد أجهضت.. فالتمركز حول الحاضر يحتاج إلى شيءٍ من التوسيع، نجده بسرعة في التاريخ الفردي للشخص, هو جزء منه, يعيش فيه, يصعب فصله عنه ويمدنا بأحلامٍ شخصية (مجهضة غالباً) تقف على مقربة من الحاضر و تكاد لاتبتعد عنه.. وفي هذه الحالة نحن في مواجهة نوعين من الصور؛ صور الحياة اليومية المعيشة والشخصية، والآخر صور الخيال والأحلام والأوهام، وهما معاً بشكل من الأشكال يُشكلان مادة الذاكرة البديلة.. والشعر الجديد على امتداد خريطته مادة غنية تصوّر الجهد المبذول لمسح ذاكرة، وبناء أخرى, حية, تخيلية, صادقة.
هامش:
كلُّ صباحٍ؛
تستعرضُ أمام نافذتي
أرتالَ أنوثتها..
كلُّ صباحٍ،
وباستعدادٍ تام
يُشمّرُّ قلبي عن ساعديه،
ويؤدي التّحية..