القصيدة القصيرة جداً
(القصيدة القصيرة جداً)، ربما سيلتبس هذا المُصطلح على الكثيرين، وربما سيتم خداع الدماغ للعين، فتقرأه (القصة القصيرة جداً) كما حصل معي خلال وصول كتاب الصديق الأديب يوسف حطيني، الذي عنونه بهذا العنوان اللافت (القصيدة القصيرة جداً)، لاسيما أن حطيني اقترن اسمه مع المُصطلح السابق لعقدين من السنين، عندما خُيّل لنا حينها، ونظراً للحالة التعبوية التي اشتغل فيها مع فريق من الأدباء المُتحمسين لشكلٍ قصصي مختلف ميزته القصر بالدرجة الأولى، أنهم راحوا يُنظرون له ويُقعدون، ويشترطون.
هذه المرة يتصدى الدكتور يوسف حطيني للمصطلح وحده، أي من دون فريق، وهذه المرة بهدوء، ومن دون تعبئة، وربما من هنا حدثت لنا حالة الغفلة عن المُصطلح الجديد، وربطناه بالمصطلح القديم، وإذا كان المُصطلح القديم الذي شاع في العالم العربي، وكانت انطلاقته دمشق، يخص القصة، غير أن المُصطلح الجديد يخص قُصارى القول من الشعر العروضي، ولا نص آخر غير الشعر العروضي.. وهنا أعترف بأن ثمة دهشة انتابتني بهذا الإصرار على “القصير العروضي”، الذي حدد الشعر فيه دون سواه من أشكال شعرية، بمعنى الموزون العمودي المُقفى، وربما كان إضافة شعر التفعيلة – وكما شعرت جاء الأمر على استحياء- غير أنه نسف مئة سنة من عمر قصيدة النثر بجرة حبر..
أقول انتابتني الدهشة من ناقد يُصنف حداثوياً، وربما ما بعد حداثوي، ولاتزال في الذاكرة مشاهد صموده لتكريس شكل قصصي بميزات وشروط وقواعد اشتغل طويلاً لإنجازها، ثمّ نراه في مُصطلحه اللافت والجديد (القصيدة القصيرة جداً) يقصره على القصيدة العروضية فيما يُشبه حالة “نكوصية” مفاجئة، بل ثمة مُفارقة بين المصطلح الجديد، وبين ما يتناوله من شعرٍ أجمع الكثير من النقاد على أنه استنفد مختلف جمالياته – ربما منذ المتنبي- فهو يقول بالحرف: “لابدّ من التأكيد أولاً أنّ الإيقاع الشعري العروضي، أهم شروط الانتماء إلى القصيدة القصيرة جداً، وهو الشرط الذي يُقابل الحكائية في القصة القصيرة جداً، إنه شرط أساسي لازم، لكنه غير كافٍ لانتمائها إلى هذا الفنّ؛ بمعنى أن توفره لا يضمن نجاح النص، وعدم توفره في النص يُخرجه من دائرة الشعر برمّتها..” – هكذا بالحرف- ويُضيف: والإيقاع الشعري الذي نقصده هنا هو ما ارتضاه العرب لأنفسهم من ضوابط إيقاعية عروضية بدءاً ببحور الشعر العربي، وانتهاءً بكلّ ما بُني عليها من تطوير وتهذيب، من مثل الموشح وقصيدة التفعيلة التي اعتمدت تكرار التفعيلة الواحدة، إضافة إلى روافع إيقاعية أخرى يُمكن أن تُسهم في صناعة موسيقا النص الشعري.
عجبي يعني أن الذين طوروا الشعر إلى قصيدة النثر ليسوا عربا؟!!
بقي أن أشير إلى أنني استمتعت بقراءة الكتاب الذي استفاض به الباحث، خاصة في ملاحقته لجذور القصيدة القصيرة جداً لاسيما في المقطعات الشعرية من التراث الشعري العربي.